الرئيسية » رصاص خشن » الرجل الذي يصرخ

الرجل الذي يصرخ

عادل العدوي  |  

وحده صوت المكينات يعلن عن الحياة هنا..

الآن نستطيع أن نسمع صوت العصافير فوق نوافذ العنبر بلا توقف لم يقطعه منذ ثلاثة أيام إلا صوت رجل عجوز من وسط الجموع في صرخة تنبئ عن صمت دام طويلاً، حتى إنه شعر براحة عجيبة بعد هذه الصرخة، للدرجة التي قرر معها ألا يتوقف عن الصراخ مطلقًا..

سبعون عاملاً يفترشون ساحة المصنع، والماكينات يعلوها تراب كثيف اختلط بزيوت متناثرة على أجزاء متفرقة من جسم (المكن)، الرجال السبعون يشبهون بعضهم بعضا بشكل عجيب.. واحد يرتكن إلى الحائط بجوار ماكينته الميتة وآخر بمضغ لقمة ادخرها من وجبة الأمس.. بينما الكثيرون يمددون أجسادهم على الأرض لا يزعجهم الذباب المحوم فوق وجوههم.

الرجل الذي يصرخ، يلفت انتباه الجميع.. كانت صرخاته مدوية، موجعة ومحذرة.. وربما لو انصرفت عنه الآن لا يعود للصراخ مرة ثانية، لذا فإنني مضطر لأن أؤجل الكلام عن الرجال السبعين لأتعرَّف على حكاية الرجل العجوز الذي يصرخ.. وربما كانت حكاياتهم تشبه هذا الرجل أو هي صور متكررة منه.. على أية حال أنا أتحرك ببطء وحذر شديدين، فلا أعرف رد فعله حين أقترب منه.. كلما تضيق المسافة بيني وبينه يعلو صراخه ويزداد رعبي.. ها هو يكرر الصرخات بطريقة آلية وفي صوته حشرجة تشبه خوار ثور مذبوج توا.. بينما الرعب بداخلي يكبر كوحش ولا أدري لماذا لا يمكنني التوقف..

الرجال السبعون مستمرون في أوضاعهم السابقة.. كأنه ليس واحداً منهم.. وكأنه ليس موجودا على الإطلاق.. كانت ذراعه متشبثة بذراع الماكينة وقدمه على دواسة الفرامل.. في تلك اللحظة دخل اثنان من رجال الأمن، كان الواحد منهما بقوة ثلاثة رجال مجتمعين وملامحهما لا تنبئ عن شيء غير تجهم وطاعة عمياء ارتسما على وجهيهما.. انتزعاه بقوة وسحباه إلى خارج العنبر تابعتهما حتى الباب وعندما هممت بالخروج وراءهم قابلتني كف صلبة في صدري منعتني من الخروج، كانت لضابط الأمن بالمصنع.. حاولت أن أشرح له أنني لست عاملا من العمال وأن ما أحضرني إلى هنا صرخات الرجل، لكن من الواضح أنه لم يستمع إلى كلماتي.. دفعني للداخل وأوصد الباب وصار العنبر كزنزانة لمحكومين عليهم بالأشغال الشاقة.

حاولت جمع سيرته من زملائه.. وجدت عند كل واحد منهم قصة مختلفة لكنها جميعا يمكن أن تندرج تحت عنوان واحد هو “الشقاء”.

اختفى الرجل الذي كان يصرخ.. لكن صرخاته التي كانت تخفت مع الوقت لم تتوقف..

ما زالت العصافير تغرد على النوافذ وبدأ الجميع يتساءلون عما يحدث ويوجهون نظراتهم إليّ.. وبين الحين والحين ينصت الجميع للتأكد من استمرار الصراخ الذي لم يتوقف أبدا إلا مع صوت رصاصة أزعجت العصافير فهربت.. صمت الجميع وذهب كل واحد إلى المكان الذي كان فيه.. ووجدت نفسي واقفا وسط العنبر وحيدا ورأسي يدور مع اسطوانات المكينات وتروسها.. اصرخ بأعلى صوتي لكن لا أحد يشعر بي.. كان صراخي بلا صوت.. بلا صدى.

كاتب وناقد مصري  | خاص مجلة قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

“برلتراس” أو رواية الوعي بجغرافية التشاؤم

هي جغرافيا التشاؤم بالمعنى الذي لا ترقى إليه الكثير من العقول، كون خلفيته تتأسس على …