آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » فرطت المسبحة يا ساجدة

فرطت المسبحة يا ساجدة

عامر العبود  | 

كانت الجدة ترتدي ثيابها الريفية التي لم تخلعها مذ رحل زوجها الخامس، وبعد عناء طويل، تمكنت من صعود الدرج حتى الطابق الثاني، حيث منزل ابنها الأول، من زوجها الثالث، هو أكثر أبنائها قرباً إلى قلبها، فهو وحيد أبيه، ما ساعده على تجنب الخدمة الإلزامية، وذلك جعله يحب أمه أكثر، ويحنو عليها، إنها الآن تودع الحياة بهدوء، لذلك تحب زيارة منزله. قوية هي في هيئتها، ضعيفة في ذاكرتها، تنادي لأبنائها بأسماء أبنائهم، وتنسى أسماء أحفادها، مرت أيام طويلة كانت كفيلة بمحو أجزاء كبيرة من مخيلتها وذاكرتها.

ما أن وصلت إلى الباب، ورفعت يدها لتعلن للسكان قدومها، حتى تفاجأت بحبات السبحة وقد تطايرت، وتدحرجت في كل اتجاه، عقيق شفاف وبراق، غاية في الجمال، متموج بعروق رائعة، كانت السبحة هدية غالية من ابن عمها الذي يقطن في بريطانيا، صرختْ بقدر ما استطاعت، وحاولتْ أن تلملم حبة من هنا، وأخرى من هناك، لكنها لم تكن قادرة على الانحناء، فقد انحنت كثيراً خلال حياتها، أما الآن، فلا هي تنتصب، ولا هي تنحني.

طرقتْ باب ابنها بجنون، فُتح الباب، وكانت (ساجدة) زوجة ابنها ببرنس الحمام، مستغربة أن العجوز الهادئة، لم تعد هادئة، سألتها عن أمرها، فضربت على رأسها وقالت لها:

“فرطت المسبحة يا ساجدة…”

دقت ساجدة ناقوس الخطر في المنزل، إرضاءً لحماتها المجنونة، فتجمع أبناء ساجدة في فرقتين، كل فرقة مؤلفة من انثيين وذكر، وبدأت رحلة البحث عن حبات السبحة، على الدرج، في زوايا الاستراحات بين الطوابق، قرب العتبات، بحث دؤوب، استمر عدة دقائق، كل فرقة وجدت بضع حبات، وبعد جمع تلك الحبات، دخلت الفرقتان إلى صالون البيت، والجدة جالسة على الأريكة، تنتظر باهتمام شديد نتائج الحملة التي قام بها الأحفاد، كلما تقدم واحد منهم، وأعطاها ما وجده، وضعت الحبات ببطء في الخيط، حتى انتهى الجميع من تقديم ما وجدوه، لكن حبة واحدة فقط ناقصة، فبدأت الجدة تلطم على خدها، وتبكي بحرقة وكأنها فقدت أحد أبنائها، وساجدة تحاول أن تهدأ من روعها، وتخفف عنها الخطب الجلل، والجدة تقول:

“فرطت المسبحة يا ساجدة…”

لم تتمكن ساجدة من تمالك أعصابها، فرفعت سماعة الهاتف، وأبلغت كل أولاد الجدة، ليأتوا ويجدوا حلاً لهذه المصيبة، وما هي إلا ساعة واحدة، حتى أصبح البيت كطنجرة الضغط، كلهم اجتمعوا، مع أولادهم، وأزواجهم، واثنين منهم معهم كلابهم، وإحداهن معها خادمتها، التي لا تحب العقيق أبداً، لذلك لم تشارك أبداً في النقاش، ودار حديث طويل، عن كيفية إنهاء المأساة، فتقدم أحد أبنائها، من زوجها الأول، وربط خيط السبحة، وقال لها:

“يا أمي، الله لن يحاسبك على حبة ناقصة!، خذيها من يدي وكفي عن البكاء، اعتبري أنها كاملة، وعدي أخر حبة مرتين.”

توقفت الجدة بشكل مفاجئ عن البكاء، كانت تشعر بالضجيج من حولها، لكنها لم تعلم بوصول هذه الجموع كلها، نظرت إليهم، فأخذت السبحة، وتناست الحبة الضائعة، كانت متعتها أكبر من حزنها، للمرة الأولى في حياتها يجتمع أفراد أسرتها جميعاً، ما عدا ابنها الأحب إلى قلبها، الذي مات قبل أيام قليلة.

 مضى الوقت على العائلة الكبيرة، والأم تضحك بلا سبب، وهم يتهامسون، كل اثنين أو ثلاثة استقلوا بحوار وحدهم، إلى أن بدأوا بالانسحاب، عائلةً تلو الأخرى، حتى عاد البيت لهدوئه، ساجدة، وأطفالها، والجدة.

دخلت الجدة إلى المطبخ لتشرب دواءها، ثم تذهب إلى النوم، شربت كأسين من الماء لتبتلع حبة الدواء، وفي يدها السبحة الناقصة حبةً واحدة، فكرت بينها وبين نفسها، كم كانت جميلة هذه الليلة، لقد رأت كل أحبتها، وسمعت أصواتهم “لم يكن ينقصهم إلا واحد فقط”، نظرت إلى السبحة في يدها، وقررت التخلص منها، كي لا تحزن عليها، وتفسد شعورها بالسعادة، وكانت تعلم أنها ستنساها بعد وقت قصير، كما أن ابن عمها الذي في بريطانيا كان شخصاً قذراً، فرمتها في كيس القمامة.

قبل أن تغفل عينها بقليل، شعرت أن شيء ما في جيب ثوبها الريفي يزعجها، وعندما مدت يدها إلى أعماق الجيب، أخرجت جسماً أكبر من حبة الحمص بقليل، وأقل استدارة، لكن العتم كان شديداً، أضاءت المصباح، وإذا بها تمسك بالحبة الناقصة، صدمت في بادئ الأمر، ثم هرولت على قدر صحتها إلى المطبخ، وفتحت الباب الصغير تحت المجلى، لكن كيس القمامة قد اختفى، وحل مكانه كيس جديد، تنهدت، وتمتمت مخاطبةً الحبة:

“من نسي أنه وضعك في جيبه، سينسى أنه وجدك في جيبه”

ثم رمت الحبة في القمامة، وذهبت إلى النوم، لكنها في الصباح استيقظت مرعوبة، ولما دخلت ساجدة إليها، وجدتها تصرخ:

“فرطت المسبحة يا ساجدة…”

كاتب سوري  |  خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …