آخر المقالات
الرئيسية » رصاصة الرحمة » العيش والحياة

العيش والحياة

يزخر قاموس أدبيات الاجتماع السياسي “العربي”، بمفردات خطيرة، ليس لأنها منحوتة من قاموس شفاهي يعتمد على التكرار، فقط، ولكن لأنها “تقوم مقام” مصطلحات علمية تقنية كانت قد وضعت للاستخدام في حيز معرفي معاير، وليس خبط عشواء، الذي يماثل تبويس اللحى في حل النزاعات، والمشكلة أيضاً أن هذه المفردات قد تمت ترقيتها إلى مقام المصطلح، فدرجت في الاستخدام كخلاصات تقنية تملأ فراغات السرد بما هو ليس موجوداً فيه، وهكذا يتم بناء الخطاب المعرفي منبرياً على أساس جودة اللغة، وليس على أساس مقاصدها المحددة بمفرداتها المعايرة، وهكذا قد نصل إلى الجحيم بدلاً عن النعيم بقيادة خطاب يطلق الكلمات كالرصاص على المعرفة المطلوبة لإنقاذ الواقع من براثن الجهل.

ربما كانت هناك مفردات مشهورة كثيرة ومتداولة وتم تثبيتها كمصطلح (لغوياً على الأقل) على قاعدة الخطأ الشائع خير من صواب مغمور، ومنها مفردة (التعايش) وكذلك التسامح، وخدش الحياء العام… وإلخ إلخ.. من هكذا تقليعات، ولكن مصطلح “التعايش” كمفردة، يزخر أكثر من غيره من هذه المفردات/ المصطلحات، بمعان متعاكسة مع مقاصد/ نواياهذه المفردة في استخداماتها الواقعية.

مفردة التعايش تزخر بمعنى واضح للمؤقت، مع أن المقصود منها هو الديمومة، التي لا مناص للمجتمعات (إذا كانت مجتمعات) من الإرتكان إليها، فالديمومة صفة لا تنسلخ عن المجتمع. حيث تبدو المفردة مشروطة بعلى أن لا يستجد شيئاً على أحوال “المجتمع” وهذا من مستحيلات الاجتماع البشري، حيث أن المستجدات قادرة على نسف أي تعايش، هذا إذا أخذنا هذه المتغيرات على أنها طبيعية، فكيف لو كانت صناعية أو مدبرة؟ لذا تبدو المفردة غير مجتمعية من هذه الناحية على الأقل. ربما تصح مفردة التعايش الرائجة هذه مع حالات يعتبرها العقل مؤقتة مثل التعايش مع القمع أو الاستعمار أو حتى البرد، ولكن لا يمكن لمفردة كهذه أن يصنّع منها مفهوم مجتمعي دائم.

من طرف آخر يوحي ( التعايش ) أن من يتبناه ويمارسه هو على قناعة أن اجتماعه يحتاج إلى تعايش، لأن الرابط المجتمعي مفقود، وليس هناك من أمل بالعثور عليه، لينحدر الرابط المجتمعي المعبر عنه بوحدة المصالح، ليصبح رابطاً اجتماعياً معبراً عنه بأنواع التقاليد، ولا يمكن للقوانين ضبطه وإلزامه أو التربية عليه، فالتعايش مهدد دائماً بالفشل حتى جراء نزوة، وهذا ما يقود إلى توازن رعب تقاليدي ما قبل مجتمعي، وهذا ما يقود أيضاً لفرز عمودي صامت، فجميع أطراف التعايش على حق، ولا يتسع السؤال هنا إلا عن الغلبة، فالمتعايشون مستنفرون دوماً ويحشدون الطاقات استعداداً لاختلال هذا التعايش، لتبدو تلك الاجتماعات السكانية على صفيح ساخن بشكل دائم. فالناس لا تقودها وحدة المصالح، بل تمايز خصوصياتها الفلكلورية.

و”التعايش” أيضاً وأيضاً، هو تعبير واضح عن أناس أصليون في المكان وآخرون لم يعودوا غرباء بطريقة ما، يفترض أن يتعايشوا معاً، حقناً للدماء على الأقل، وفي هذا خط أحمر فاحش ورجيم، فالتعايش لا يعني في حال من الأحوال الامتزاج والاندماج وهو المطلب المجتمعي الأرقى حتى الآن، والضروري لحصول حادث المجتمع، ففي ظلال التعايش تتضخم صورة الاختلاف ومرتسماته لتتحول إلى غيتو واقعي ولكنه غير معلن.

والتعايش هذا يفترض مكونات (وهي مفردة ضارة أيضاً) متنافرة، عليها غض الطرف عن إساءات الآخر المتمثلة جميعها بكونه آخر فقط، ففي حالة التعايش فقط تصبح “المكونات” مختلفة اختلافاً حدياً وليست تعبيراً عن تنوع داخل مجتمع، حيث يصبح التعايش تنازلاً وفضلاً من الأقوى، في هدم مروع لكل المنجزات المجتمعية (حال حصولها) ، لأن التعايش يقوم على الحصص والاقتسامات وليس على الاشتراك العضوي، ليصبح التعايش مهدداً في كل مرة يعتبر فيها المكّون نفسه مغبوناً، وبالتالي يلحق التهديد كل التشكيل الاجتماعي.

يحتاج التعايش إلى تعايش المكّون مع نفسه أولاً، ولكن صيغة التعايش غير المجتمعية، تجعل من المكّون نفسه قابل للانفجار تعايشياً عند أدنى مفارقة فلكلورية أو مصلحية عبر صيغة الاقتسامات العمومية، فصيغة التعايش بين “مكونات”، لها مرتسمها داخل المكّون المفرد أيضاً، وهذا ما لحظناه ولحظنا نتائجه في التعايشات الإسفافية العربية قاطبة.

ربما يرشح سؤال بسيط من مقولة التعايش الرائجة هذه : مع من يجب أن نتعايش ؟ بمعنى من هو الآخر مجتمعياً؟ فإذا كان هناك آخر مجتمعي؟ ومأخوذ هذا الاعتبار على محمل الجد؟ فلا من مجتمع ولا من يحزنون، وعليه لا لزوم حتى للتعايش تلك الكلمة الهرائية التي لا تحمل غلاً معان توهمية قياساً على مفهوم المجتمع المعاصر.

فالمجتمع المعاصر هو رابطة حقوقية في ظلال المساواة، إذ أن المقصود بالثقافة المجتمعية الواحدة هي الثقافة الحقوقية حصراً وللمجتمع إذا كان معاصراً ثقافة واحدة هي الحقوقية، وهي ثقافة تأسيسية وكبيرة، وليست فرعاً من فروع الفلكلور المسمى تراثاً، ولا هي منتج أدبي أو فني حتى لو كان بديعاً أو فريداً ومتمايزاً، وفي ظلال المجتمع المعاصر لا وجود للمكونات الاقتسامية، أو الهويات المتداخلة أو التمايزات الخصوصية، وإلا لن يستطيع أي “مجتمع” توليد دولة، تلك التكنولوجيا الضرورية لبقائه واستمراره في العصر، ولسوف ينتكس باتجاه “السكانيات” في خيانة حقيقية للهدف من وجوده واستحقاقات هذا الوجود، وهي انتكاسة لا تنفع معها عمليات إدارة الأزمات العضوية ( كالطائفية والفساد مثالين) فالفناء يطرق الأبواب مثله تماماً كمثل النهضة، مرهون بتوفير استحقاقاته بغض النظر إن كان هناك تعايش أم لا.

تبدو مفردة التعايش، مزاحة أو مكيفة  وحتى مقسورة على التعبير عما لا تقصده كمصطلح معاصر، فالتعايش كمفهوم هو خطاب موجه إلى المجتمع الناجز، وليس إلى أشباه المجتمعات أو ما يمكن أن يطلق عليها “المجتمعات” الجنينية التي تبدو ومن مقدمات الحمل أنها لن تولد قط، طالما كان التعايش قد أنحرف عن مقصده ليصبح تعايش المكونات المتنافرة المشاركة في تخليق هذا الجنين، حيث تتوفر استحقاقات إجهاضه (فشله) على رؤوس الأشهاد، والمحزن في الموضوع أن هذه الاستحقاقات السامة هي موضوع الاجتهاد والاحتدام التنظيري “للمثقفين” ، ليتم تحشيد منتجات ثقافية هي من خارج الموضوع، لإثبات إيجابية وجود “المكونات”، ليتحول أو يتكيف أو ينقسر الاستحقاق ليصبح موضوعه هو إنصاف المكونات كشرط تعجيزي لولادة المجتمع، وهنا يتضح أن التعايش كمفردة أو كمصطلح معاصر، مقصود به المجتمع ككل، مع المجتمعات الأخرى وكذلك مع مفاجآت الدنيا وأهوالها.

لا يوجد تعايش في تجمعات المكونات، وإذا كان موجوداً إفتراضاً أو وهماً أو دعاية وإعلاناً، فهو يقطع الطريق على الحياة ويؤجلها ريثما يشفى “المجتمع ” من جائحة التعايش هذه، ليظهر أن التعايش معرفياً وفي سياقات الثقافة “العربية” هي مفردة سلبية وكارثية الفعل والمؤدى (على ما اطلعنا عليه في أحوال بلداننا الآن)، فإلى متى سوف نظل نمضغ (كبكوبة الشعر)هذه؟.

التعايش مفردة منحوتة (محليا) من العيش، والعيش مباح للجميع من إنسان وحيوان ونبات حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولكن المقصد الإنساني هو وحده يروم إلى الحياة .. الحياة …. الحي………اة ، الح……ياة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *