آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » المثقف في الأحداث السورية: تشظي النخب وضياع الرؤى

المثقف في الأحداث السورية: تشظي النخب وضياع الرؤى

بات من الواضح أن الأزمة السورية الحقيقية هي أزمة مثقفيها، وأن المشكلة في رأس الهرم  بقدر ما هي في قاعدته، وأن القبح الذي يوجد على الأرض السورية في علاقة ديالكتيكية مع النخب المثقفة، فهذا من ذاك وبالعكس، فكيف لنا أن نطالب الذين اختبروا الحرب بكل صورها الطاحنة أن يفكروا بمستقبل سورية، وينظروا قدماً، ويخففوا من الاحتقان الطائفي، ومن الشرخ بين الريف والمدينة، ولم يتوقف المثقفين السوريين منذ ست سنوات وحتى هذه اللحظة عن تخوين بعضهم البعض، وتبادل الاتهامات والسب والشتائم والتسخيف والاستهزاء إذا كان الآخر مختلفاً عنهم في الرأي أو الرؤيا.

المشكلة ليست إطلاقاً في نقد الآخر ومساءلته، بل في كيفية هذا النقد، وآلياته، والزمن المناسب لهذا، وهو للأسف لم يعد يدور بين شخصين مختلفين فكرياً وسلوكياً فحسب،  فالنخب الثقافية السورية في غالبها وبمختلف وتوجهاتها المتشظية أعادت إنتاج “فرق تشبيحية” حسب مواقفها السياسية في هذا الفضاء الرقمي، فما إن بدأ أحدهم بمسلسل الشتيمة حتى “هاش” و التف حوله بقية الشبيحة المثقفة في تياره، ليدعموا موقفه على نطاق واسع، وهذا بالطبع ما جعل البعض الآخر المنتمي لخندق تشبيحي آخر يشحذ همم من معه أيضاً، فتستمر هذه الأطراف في لعبة الأخذ والرد باستمتاع شديد، لنشهد خلال السنوات الماضية معارك في العالم الافتراضي توازي بضراوتها المعارك المنتشرة في الأراضي السورية، في حين أن الكثير من المثقفين “المستقلين” إن جاز التعبير أصبحوا يخافون أن يفتحوا فمهم، ويعبروا عن آرائهم خشية سيل جارف من التجريح سيطالهم لا محالة من جميع الأطراف، واتخذوا من الصمت ملجأ كي لا يتلوثوا بما يجري.

وإن المرء ليتساءل حقاً عن مشروعية الأفكار ومصداقيتها وأهميتها وهي صادرة من هذه الفئات المتطرفة فكرياً، وأصحابها دواعش في عقولهم، يرفضون الآخر تماماً، ولا يؤمنون بثقافة الاختلاف، خاصة أن الحرب السورية أسقطت كل الأقنعة، لنكتشف حجم الزيف والادعاء عند غالبية المثقفين، فالكثير من المتنورين أصبحوا يتحدثون عن الطائفة والدين والعرق بشكل مقزز، والكثير من دعاة الحرية أصبحوا مع السحق والدك والإبادة الجماعية، ويحق لنا أن نتساءل: هل يحترم هؤلاء المثقفين أنفسهم، وهم يفرضون وجهات نظرهم بطريقة الشلل والعصابات السابقة، بطريقة ” خذوهم بالصوت العالي لتغلبوهم” ، وبطريقة “داروا سفاءكم فأنا سفيه”، بطريقة إن خالفتموني فالويل لكم، ها هو عش الدبابير جاهز ليلسعكم!

و لعل المفارقة أن كل صوت عاقل رشيد “غير صامت” يحاول أن يتحدث بحكمة -وأشدد على كلمة يحاول فلا آراء قطعية عما يجري في سورية ولا يقين!-  يتم وصفه بالرمادي وعديم الموقف، مع أن لا معنى لأي انحياز، وكل الأطراف أصبحت شريكة في دم الإنسان السوري، والشجاعة الوحيدة هي أن تقول لا لكل الأطراف المتصارعة، فما من شيء مخفي، وكل الانتهاكات التي ارتكبتها كل الأطراف موثقة ومعلنة، رغم أن ما خفي أعظم بالطبع، بل إن الأطراف التشبيحية كلها على اختلافها: جماعات النصر وجماعات الهزيمة، جماعات الممانعة والجماعات الثورية، جماعات التحرير والتطهير، لو قرأت الإحصائيات الأخيرة عن الشهداء والمعتقلين والمعاقين والأطفال والبنية التحتية سيخرج منهم – إنسانياً كما هو مفترض-  شخص واحد على الأقل ليهديهم مثلما فعل هرم بن سنان أو الحارث بن عوف في العصر الجاهلي، ولأنشد الشاعر منهم لزهير: “ما الحرب ألا ما علمتم وذقتكم! ” أو ردد للبحتري: ” تذكرت القربى ففاضت دموعها”، ولطالب بالسلام والتسامح وتضميد الجراح والغفران وإيجاد حل سياسي لا عسكري يبتلع المزيد من الدماء، ولاختصر الكثير من المهاترات بعد هذه المأساة مع زملائه المثقفين، ولحاول توحيد الرؤى، فسورية لن تنجو بعد كل ما جرى بغير ذلك، و يبقى السؤال:  أما من احد؟!

ليس جديراً بلقب المثقف من لم يستطع أن يناقش أية فكرة في الكون بعيداً عن شخصنة المسألة مع من يحاوره، ومن لم يجد سوى الزعيق والصراخ الفكري وسيلةً ليعبر عن رأيه المغاير، ومن لم يستطع أن يتقبل الاختلاف المطلق عنه وأن الحياة لا تدور في فلكه وحده، ما لم يكن ذلك الاختلاف مدمراً لجوهر الحياة ذاتها، ليس مثقفاً بالمرة وإن كانت لديه قائمة طويلة من الكتب، وجوقة من المطبلين والمزمرين له، وإن امتلك سلطةً “واهيةً” في عالم الثقافة، وإن  صدع الرؤوس بأنه خارج الدين والعرق والنظرات الأحادية، وهو ينسف مباشرة كل ما لا يوافق هواه الشخصي، والزمن وحده الذي سيطوي الجميع، كفيل بإسقاطه من ذاكرة البشرية تماماً.

الأحداث السورية قاسية وصادمة للجميع، المثقف وغير المثقف، ومن ماعت قيمه تحت الضغوط، فبرر انعدام الأخلاقيات، والقتل، والطائفية، والتقسيم، والتشويه لكل ما يجب أن يبقى جميلا،ً ولم يقف في وجه نفسه على الأقل، لأنه لن يستطيع أن يقف بطبيعة الحال في وجه العالم القذر، فقد خسر إنسانيته، وكثيرون قد خسروها بالفعل، والكثير من المثقفين وغير المثقفين معاً ويداً بيد قادوا سورية إلى الهاوية.

خاص موقع قلم رصاص الثقافي

عن وسام الخطيب

وسام الخطيب
كاتبة فلسطينية، خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة حلب سورية، تكتب وتنشر في العديد من الصحف والمواقع العربية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *