آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ميت » عناد الكتابة ومكابدات الكاتب..للأديب الراحل خليل جاسم الحميدي

عناد الكتابة ومكابدات الكاتب..للأديب الراحل خليل جاسم الحميدي

خليل جاسم الحميدي   |

 
تعاندني الكتابة في مرات كثيرة، وأحسُّ بعجزي الفاضح أمامها، وهي تتمرد علي، وتشهر تمنعها وعصيانها في وجهي، مع أني أقبل عليها بروحي وقلبي وفكري، وبي لهفة العاشق، وشوق المحب، ثم إنها هي التي تأتيني، فجأة تدهمني، وتدخل عليّ من حيث لا أدري، تركض من حولي ومن أمامي، وهي تبرز مفاتنها وكنوزها وتغويني، وتبعثر نفسها بين أصابعي، فأروح أتنفسها وأنا أمتليء بها، وأشعر بها مختلطة بدمي، ويصير وقع أقدامها الشفيفة أنفاسي التي أموت لو توقفت، لكنني عندما أريد القبض عليها، وامتلاكها، لتشكيلها وخلقها، تفر وكأنها ما كانت، وتقف غير بعيد مني، معاندة، متمردة، ورافضة الانصياع، وكأنها تشك بعشقي لها، أو أن ما أشعر به مجرد نزوة طارئة، قد لا تحقق لها الوصال الذي تشتهيه وتريده.‏

ما يعذبني أنها لا تأتيني زائرة في وقت محدد، فهي قد تدخل علي في الليل، وأنا ممدد في فراشي، وكثيراً ما أيقظتني من نومي، وفي مرات أخرى تفرض نفسها علي في الشارع، أو وأنا راكب في سيارة، تقف ما بين عيني بكل جلالها وجمالها وسطوتها وهي تغمز لي بعينيها وتبتسم، تدور من حولي طقساً خرافياً لا تملك إلاّ أن تنصاع لفتنته، فأقبل عليها، لكنها تروح تروغ مني، وكأنها بريئة مما أنا فيه، والذي في ليس منها، أو كأني أنا الذي أغويتها، أو أريد بها شراً، فيزداد جنوني، وأنا أحس أنّ قلبي يغادرني، فيزداد تعلقي بها، وركضي وراءها، ويصبح لعذاباتي ومكابداتي طعماً لذيذاً بقدر شراسته.‏

وكلما خيل لي أنها تخلت عن عنادها، ودلالها، وبانت بين يدي طائعة ومطيعة، ونارها المباركة أخذت تلفحني، وتكويني، أجدها صارت عصية أكثر، وبعيدة المنال، وعندما تجدني أصل حد الهبل والجنون والموات، وأنا أدور في المكان، أجدها تعانقني، ونارها المباركة تنساح في دمي وروحي، ثم تروح تتفتح بين يدي خلقاً جديداً، لا يعرفه إلا من كابد عناد الكتابة، واشتوى بنارها المقدسة.‏

قاسية هذه المعشوقة ومنيعة، وسر فتنتها وسطوتها تأتي من هذه القسوة والممانعة، ومجنون عاشقها، لأن تمنعها يؤجج اشتعاله، وجنونه اللذيذ، ويزيده تعلقاً بها، وركضاً وراءها، وإصراراً على الوصول إليها وهو لا يرى في عنادها البهي إلاَّ دعوة صادقة إليه، ليس رفضاً ولا خيانة، لكنه الامتحان الصعب والمقدس الذي يسير فيه الكاتب على حدِّ السيف، أو الشفرة، أو سمه الصراط، وهي تعرف من هي، هي المباركة الباقية يوم لا يظل باقياً. مثلما هي في البدء كانت، وعاشقها عليه أن يكتوي بنارها، ويدخل امتحانها العسير راضياً ومفتوناً، وعليه أن يقطع الجبال السبعة، والوديان السبعة والبحار السبعة، والأراضي السبعة، حتى تهتريء أحذيته الحديدية السبعة، ويقاتل التنين ويقتله، دون أن يخاف عبور الغابة المسحورة، أو عيني ميدوزا، ويصم أذنيه عن كل غناء، إلاَّ غناءها العذب، الساحر، وأن ينام وهو يتقلب على نارها، ويفيق على صوتها، ووقع أقدامها من حوله، وقلبه العاشق مملوء بحبها، مثلما روحه تتنفس من روحها دون أن يشعر بتعب، أو يتلجلج في داخله الشك، أو ينتابه شيء من الظن السيء بها.‏

وقتها تدرك الكتابة أنها باتت هاجس عاشقها الذي يشتاقه ولا يمل منه، وأنها باتت حياته التي لا يملك حياة غيرها، ولا يعرف هذه الحقيقة إلاّ من كابد عناد الكتابة وعشقها.‏
وعندما تصير الكتابة والكاتب شيئاً واحداً، يتنفسان برئةٍ واحدة، ويحترقان بالنار ذاتها، تنهمر الكتابة غيثاً أخضر، يتشكل بين يدي المبدع: عوالم، وأحداث وأصوات، وشخوص، وسموات، فيولد خلق جديد، ما كان ليوجد أو يكون، لو لم تعطه الكتابة ذاتها، وينفخ فيه المبدع من روحه.‏

قد تطول عملية الخلق أو تقصر، وقد لا تحدث بالمرة، لكنَّ الشيء الأكيد أنَّ عناد الكتابة، وإصرار الكاتب على التمسك بها هو الجذوة المقدسة التي لا بدَّ منها، والتي بدونها لن تكتمل عملية الخلق الإبداعي أو تكون.‏

أديب وقاص سوري راحل   |  موقع قلم رصاص 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *