آخر المقالات
الرئيسية » رصاصة الرحمة » المثقف على مشواة الفهلوة..متلازمة الصيادي، الكواكبي

المثقف على مشواة الفهلوة..متلازمة الصيادي، الكواكبي

يتنادى “الكتاب” و”المثقفون” إلى نعي المثقف النخبة، وإعلان وفاة دوره من خيانته وفصامه مع الجماهير وتعاليه عنها، إما إندحاشاً في أقفية السلطات، أو إمعاناً بالتابعية للغرب والتذلل له، ولكن هكذا أدلوجة لا تبدو متماسكة لعاقل، إلا إذا اعتبرناها موجهة كتهمة إلى المثقف الحداثي تحديداً مهما كان منشأ ثقافته المعرفية، ولا أقول أنه من الظلم توجيه هكذا اتهام إلى أي نوع من أنواع المثقفين أو النخبة، فالداروينية الثقافية صراع مفتوح لا يمكن الاعتراض عليه طالما كان برعاية الشرف الإنساني الذي يحترم الحياة الإنسانية وكرامتها.

هذا الاتهام الذي يتهم المثقف (النخبة) بالتخلي عن ثقافته وجماهيره، يبدو أقرب الى الافتراء الذي يسهل تقديم أكباش فداء إلى محرقة الفهلوة، ليتم شواؤها على مهل وبمزمزة على صوت قرع أنخاب كؤوس العرقسوس والشاي الأخضر والزنجبيل الأصلي، ليظهر جلياً من هو المثقف المطلوب شوائه، ومن هو “المثقف” الذي يجب تكريسه ويتحمل تهمة الابتعاد عن جماهيره كتبرئة من الخراب الحاصل، في استعادة واضحة وفاضحة لسيرورة عبد الرحمن الكواكبي وأبي الهدى الصيادي، أولهما ذهب إلى مصر هارباً من مصير محتوم والثاني لبث في حلب قرب جماهيره التي تحتاج إلى تنويره ونوره، هذه السيرورة الأنموذج، تكررت في جميع الاحتكاكات التنويرية التالية، وتم هزم أنموذج الكواكبي عبر اتهامه بالابتعاد عن الجماهير ، عبر منتجاته الغامضة، أو بالتعالي عليه بالخوض في مساحات معرفية أعلى من مستواه، أو انسحابه إلى أبراج عاجية بعيدة.. الخ الخ.

ولكن المتأمل البسيط يعرف أن المثقف لم ينسحب وإنما تم إبعاده، واستبداله بالمثقف الصامد الصابر تلك الميزة الثورية المبتكرة ارتجالاً، والتي لم يستطع إلى تحملها سبيلاً أصحاب أنموذج الكواكبي من أمثال أبي خليل القباني، وطه حسين وعلي عبد الرازق وفرح أنطون وخليل سعادة… إلخ وتم إنزال أنموذج الأفغاني وعبده ورضا والبنا كرواد للنهضة والحداثة والتحرير والحقوق المدنية بشكلها المتكيف مع الخصوصيات المحلية، هذا الأنموذج البديل للمثقف المعرفي، هو من اخترع ووضع في التطبيق أفكار مثل تجديد الخطاب الديني (مثالاً) بديلاً بروبغانديا عن موضوعة الإصلاح الديني التنويرية، فدعوة محمد عبده وأستاذه الأفغاني (مثالا) كانت توحي بالتنوير ولكنها كانت حولت “لغوياً على الأقل” مسار مفهوم الإصلاح التنويري إلى مفهوم الإحياء المعاكس تماماً للتنوير، حيث يبدو المظهر بريئاً وحداثياً ولكنه مجرد عارض قشري لا يعني تنويراً بأية حال، وهكذا ينتج هكذا مثقفون ملتصقون بالشعب “تنويريا” مثل حسن البنا يتابع مسيرتهم بالتنوير والحداثة منتجاً سيد قطب والظواهري..

بينما ينتج المثقف المعرفي كالكواكبي أو سعد زغلول، مثقفين “منسلخين!!” عن واقعهم أمثال ياسين الحافظ وطه حسين وعلي عبد الرازق وخليل عبد الكريم ونجيب محفوظ وسلسلة طويلة من أسماء الشهداء من ضحايا المفكرين الملتصقين مع هموم مجتمعاتهم، قبل ولادة التواصل الاجتماعي الذي شكل ومنذ بداية ظهور شريط الكاسيت مبولة سممت كل مياه قد تكون صالحة للشرب.

لا لم يبتعد المثقفون عن جمهورهم البهي، ذلك الجمهور الذي كلما ازداد ثقافة على أيديهم، ازداد تخلفاً وهمجية، فمع بداية السبعينيات راج تداول الكاسيتات كوسيلة حداثية لتوصيل المعلومات، وصدرت الدول العربية إلى بعضها البعض منتجات مئات المثقفين الملتصقين بجماهيرهم، وحصل إنقلاب حقيقي ليس في الملبس والمشرب فقط، بل بالدور المنوط بأفراد الشعب أيضاً حصل ذلك بسرعة قياسية إذا ما قورنت بحركات اجتماعية ضرورية، كتنظيم النسل والحفاظ على مصادر العمل والمياه والوعي البيئي ومراقبة مقاييس الحريات والتي لم يتم الالتفات إليها بتاتاً، وهكذا استمر التصاق المثقف المتواضع (غير المتعالي) بشعبه غير تارك وسيلة توصيل حداثية تعتب عليه من شاشات التلفزة الفضائية حتى شاشات الموبايلات الذكية، في محاولة لجعل الحق الإرادي بالتخلف حقاً أساسياً استقلالياً مقدساً من حقوق الإنسان، مستنفرين لحمايته جحافل الواعين لهذا الحق المدني المفصلي داخل البلدان وخارجها مظهرين أفضل ما لديهم من رقة وسماحة من أجل تفعيل وتوسيع مساحة فعل ثقافة هذا الخطاب.

ولكن …؟ من أين جاء هذا التنظير الإجابة على هذه الوضعية المعرفية /الثقافية الكارثية؟ من أين جاءت هذه الهملوجة ( الهمروجة الأدلوجة):

إن السبب هو تعالي المثقف وابتعاده عن جمهوره الفاعل في التغيير. وهذه أكذوبة تبريرية تظلمية تريد ربط الفكر المتخلف بالجرأة وكذلك بعقدة الاضطهاد، ولكن الحقيقة أن المثقف كان يرافق جمهوره حتى إلى حفلات الانتحار “الاستشهادي”، ومع هذا كان دائم الشكوى من تضييق الخناق على هكذا حرية شخصية، ولكن المثقف أو النخبة لم تغادر جمهورها، من جهة أخرى تم تصنيع حصان طروادة لغوي مختص بتمويه الأفعال والممارسات المؤدية إلى النهضة بما تعنية من حداثة بنيوية، فكما قلنا أعلاه أصبح إحياء الخطاب الديني هو الحقيقة الفعلية المقصودة من الإصلاح الديني، وما وصل إليه الأداء التديني بعد مئة عام من يفضح أن الإصلاح الديني لم يكن وارداً في المقاصد الثقافية لهؤلاء النخبة من المثقفين، ولعل صدمة أركون، وطرابيشي (وأمثالهم) وذهولهم من منتجات عابد الجابري وهشام جعيط ( وكلها على سبيل المثال) حيث نكتشف صورة المثقف الحداثي /الداعية/ الفقيه في لحظة نزوله من حصان طروادة ظافراً، (وهذا ما حصل في مصر على الأقل حيث ظل عصام الريان يكتب في السفير اللبنانية كمثقف عضوي، حتى لحظة انتخاب مرسي، لينقلب نازلاً من حصان طروادة مشرعاً إبتسامة القبول بالدور القادم كسياسي مؤدلج)، الحركة الثالثة من سيمفونية التغلب على المثقف “المتعالي” هي إفلات كلاب التكفير والتخوين والخصوصية عليه لتنهشه وهو حي ولتغيبه وهو موجود، فإذا لم تطله سكين محفوظية، نالته مطوة تطبيعية، أو شبهة خمروية كحولية، أو فضيحة جنسية، أو التلبس بالحصول على جائزة ما مهما تكن ، وهذا هو الوقوع في متلازمة الصيادي الكواكبي وإلخ…. أن تكون مثقفاً حداثياً يرى الأشياء من منظار المصالح المجتمعية؟! 

ليست المشكلة في حضور النخبة أو غيابها، أو جودة نوعية المثقفين، المشكلة هي في الأفكار ذاتها، إن كان من عدم صلاحيتها مع الفكر الاجتماعي المعاصر من احترام الحياة الإنسانية وتقديس كرامتها بشكل صارم وعام من دون استثناءات، كما أنها غير متناسبة مع نفسها أيضاً حيث تشترط في غالب الأحيان وجود عكس مرادها وطلبها كشرط على تحقق طلبها كاشتراط وجود العبودية من أجل تحقيق الحرية أو الإهانة من أجل اكتمال ممارسة الكرامة وإلى آخره من هزليات التفكير الثقافي.

هذه النوعية من الثقافة سوف تقود إلى الهمجية أي الحضارية السلبية خصوصاً بعد الحصول على نسخ حديثة من أبو الهدى الصيادي على شكل خارجي يشبه شكل الرائد الحداثي عبد الرحمن الكواكبي، للتمويه على هؤلاء الحثالة الذين لا يراعون للثقافة حرمة إن كان حداثية أو تراثية إلا ويحاولون هدمها، وبعد التمويه عليهم يتم التقاطهم وهدمهم معنوياً، ومن ثم تصريفهم جسدياً علهم يتعظون…
أعتقد أنها حكاية طويلة طويلة لا تستحق الذكر أو الشكر …..ولكنها جزء مما حصل لما صارت إليه هذه الشعوب الكذبة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *