آخر المقالات
الرئيسية » ممحاة » الجسد بين السلطة والنص

الجسد بين السلطة والنص

عاصف الخالدي  |

في زمن أسطوري قديم، كانت ليليت، الآلهة الفراتية، مسؤولة عن تربية الأطفال، وكانت بلطف، تهدهد أسرتهم وتتركهم ليلعبوا بشعرها الأسود الطويل حتى يناموا في الليل. وذات يوم، أمسك الرجال بيدها، وشدوها للخارج، قتلوها ودفنوها، ماتت، وظل شعرها ينمو، حتى وهي في القبر. منذ تشكل أول مجتمع زراعي، بدأت محاولات السيطرة الأولى على الجسد.

 حسب تلك الأسطورة، صار الرجال جنوداً، وخضعت المرأة للرجل الذي بدأ يبحث عن تربية تعزز فكرة القوة والسطوة، وسيطر الجسد الذي يملك القوة والقدرة على أداء أعمال أصعب، على الجسد الذي صار من واجبه الطاعة والاعتماد. ورغم أن زمن الأساطير زمن لا ينتهي، إلا أن النصوص المقدسة، وبمجرد ظهورها، قررت أن تنتصر للأقوى.

 وهكذا، أعيد إنتاج قصة الخلق، وكان للجسد الحظ الأوفر فيها من الاستلاب، فقامت النصوص بربط الجسد الأرضي، بما هو فوق أرضي، وفرضت على الجسد الإنساني  تاريخاً جديداً من الوعي، مهددة بالعقاب، ومبشرة بالثواب، رافضة أن يكون تاريخ الجسد  على الأرض بخبراته وأحلامه وحتى خرافاته وحكاياته، أساساً لعلاقة الإنسان بجسده!!.

 وهكذا، صار للإنسان جسد سماوي، يعادل جسده الأرضي، جسد مثالي، لا يفنى، ولا حد لرغباته، مقترن بالطاعة للنص ومعززاً لمفهوم الطاعة، الذي اندرج فيما بعد، ومنذ شريعة حمورابي، ضمن اهتمامات السلطة، كمعاونٍ لها في تعميم وعي جمعي، يترك لها مهمة التقرير، ويمنع التأويل، تحالفت السلطة مع النص، في حشد وعي جمعي قطيعي.

 تم ربط الأجساد كلها بوعي جماعي مقونن، اعتبر وعياً روحياً، ما ورائياً، حازماً وخارجياً، أغفل حقيقة أن لكل جسد إنساني تعقيداته وخبراته وأحلامه كما أسلفت، لكن سوق الإنسان للخضوع، وسوقه للحرب والموت، كان وما زال، يتطلب التعميم، تم تأميم الجسد العام لصالح السلطة والدين، أما علاقة الإنسان الخاصة بجسده، فاندرجت في صيغة الكبت و(التابو).

في حكاية طروادة الهوميروسية يحتشد جيش أخيل وأجامنون ليشكل جسداً سلطوياً عسكرياً، يحاصر طروادة، التي تحوي جسد الحب الممثل بهيلين وباريس. ورغم أن حجة الحرب لم تكن مقنعة، إلا أن الآلاف ماتوا فيها على أقل تقدير، وظل السؤال مفتوحاً: من يمتلك الجسد الإنساني؟

اليوم، وبعد تراكمات طويلة، شكلت تاريخاً للجسد البشري، يمكن طرح إجابة عن محاولات امتلاك هذا الجسد، ولصالح ماذا ومن. ويبدو أن المجتمع منذ ظهوره، كحالة جماعية، ومنذ إيجاد سلطة تحكمه، بالنص والقوة، فإن الجسد ترنح لزمن طويل، وظلت قيمته في التاريخ قيمة جماعية حتى لو أنها خلدت الفرد باسمه وحياته الشخصية.

 استخدم البشر كأدوات قتل، لقتل بشر آخرين، أُقصيت أجساد، ومجدت أخرى، انتهكت أجساد ورازت في العبودية، فيما امتلكت أجساد أخرى وكانت أسياداً. حتى أن الأمراض الفوضوية وكوارث الطبيعة غزت جسد الإنسان ذات تاريخ، وصار الإنسان كما يقول ديتر تسميرلنغ في كتابه: الهوس القيامي الألفي. صار يعرف القيامة، وصار يموت في جماعات.

 لكن هذا، لم يكفِ ليعترف الإنسان أن تاريخ الجسد هو تاريخ المعرفة، وأن خضوع الجسد لكل ما سبق، ليس سوى قمع، واليوم، لم يزل خلاص الجسد بشكل فردي جريمة، ولم تزل الجرائم الجماعية في الحروب كما يحصل أمام أعيننا اليوم، بدعم ديني وطائفي وعرقي ومصالح، لم تزل هذه الجرائم ممثلاً لخلاص جماعي، مقبول، ومبرر.

 إن خلاص الجسد بركونه إلى نفسه كمفرد ينطوي عليه هذا الوجود، برغباته وأحلامه، يحارب كجريمة، يعاقب عليها النص ملوحاً بمفهوم الأخلاق، كما تفعل السلطة ذات الفعل، بمفهوم القوانين، ولربما يكون هذا مقبولاً، لو كان في إطار أخلاقي حقيقي وغير عبثي، ولكن:

 من ينظر لتاريخ النص المقدس، يرى تاريخه التطهيري، الرافض لأي تبرير خارج حدوده الدموية، تماماً كما فعلت السلطة ومازالت بعض أشكالها تفعل حتى اليوم، بحيث يقومان بتبرير الجريمة الجماعية، ويعاقبان الفردي المتمرد على سلطتيهما.

 في تاريخ ما، تلا الأساطير، وتخلل بين تواريخ ظهور النصوص المقدسة، ظهر الأدب و كذلك الفلسفة،  كنصوص معرفية إنسانية، لا تستعلي على الإنسان، لا على عقله ولا على جسده، وبها، حاول الإنسان ربما، أن يرثي نفسه، ويرثي هذا العالم، على أمل أن يتوقف التاريخ يوماً ما، عن تسجيل الحماقات والمجازر القيامية، بحقه.

روائي ومترجم من الأردن  | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *