الرئيسية » رصاص خشن » فقدان المعايير وتأثير “دانينغ كروجر”

فقدان المعايير وتأثير “دانينغ كروجر”

في شريط مصوّر، لم تتجاوز مدّته الدقائق الست، حمل عنوان “لماذا يكون الفن الحديث رديئاً؟” يشرح الرسّام والمصوّر الأميركي، والمدرّس في جامعة “برايغر”، روبرت فلورزاك، الأسباب التي أدّت إلى تردّي معايير تقييم الفن منذ مطلع القرن العشرين، والتي أودت إلى استبدال “الملهِم والعميق والجميل” من الفن بالـ”الجديد والمختلف والقبيح”، مشوّهةً بذلك الذائقة الجمعية للناس، ليغدو السخيف، وفارغ المعنى، والذي لا يمثّل أكثر من إساءة للفن الحقيقي، هو ما يعتبر أفضل أشكال الفن الحديث. ففي حين بذل مايكل أنجلو الكثير من الوقت والجهد لينحت تمثاله “داوود” من صخرة.

يفاخر متحف “لوس أنجلس كاونتي” بعرضه صخرة تزن 340 طناً (مجرّد صخرة) كنموذج عن الفن الحديث. يعيد فلورزاك بدايات الانحدار إلى مطلع القرن التاسع عشر حين ثار الإنطباعيون ضدّ “أكاديمية الفنون الجميلة” الفرنسية والمعاييرالكلاسيكية التي تطالب بها، مؤسسين بذلك لفكرة “نسبية الجماليات”، وإن كانوا قد استطاعوا آنذاك إنتاج أعمال فنية ذات قيمة كبيرة، نظراً لالتصاقهم بالمعايير الجمالية التي ثاروا عليها، وعدم إغفالهم لها أثناء العمل على تحطيم قواعدها، فإنّ ذلك لم يصمد مع الأجيال اللاحقة، التي راحت تتخفّف من المعايير شيئاً فشيئاً حتى تخلّت عنها تماماً، لنصل اليوم إلى زمن لا يتردد فيه متحف “سان فرانسيسكو للفن الحديث” بعرض لوحة بيضاء (مجرّد لوحة مطليّة بالأبيض) موقّعة باسم “الفنان المشهور” روبرت روشنبرغ، كنموذج عن تحفة فنية معاصرة.

 الأمر عينه دون شك ينسحب على مختلف الفنون والأشكال الإبداعية، فمع شيوع نظرية “الفن للفن” مطلع القرن التاسع عشر، واجتهاد روّادها بجعل الجمال قيمة يتيمة تحملها الأعمال الإبداعية التي نظروا إليها ككائنات عضوية مستقلّة عن كلّ ما هو خارجها، ظهرت أعمال إبداعية عى درجة من الإتقان، لكنها كانت أشبه بريشة جميلة يحملها الهواء متلاعباً بها فلا تعدو كونها مشهداً جميلاً دون معنى، وهو ما دفع عدداً من روّاد هذه النظرية للتخلي عنها لاحقاً، مثلما فعل ت.س.إليوت الذي اعترف لاحقاً باستحالة استقلالية الفن عن الحياة، واستحالة أن يكون غاية بذاته. لكن على الرغم من ذلك فقد وجد الكثيرون ملاذهم في هذه النظرية، وفي تنظيرات الأوائل عنها، وراحوا شيئاً فشيئاً يتخلّون حتى عن القيمة الوحيدة التي رفع رايتها المنظرون الأوائل (الجمال)، لنكون اليوم أمام طوفان من الأعمال المفتقدة لأي معنى، ولا تتعدى كونها كلمات جوفاء مرصوفة إلى جوار بعضها تحت مسمّى “شعر، قصة، رواية، مسرح” أو خليط من الألوان المسكوبة على عجل فوق القماش تحت مسمّى “فن تشكيلي”، وبالطبع تجد هذه الأعمال من يروّج لها في الصحافة الثقافية، التي طالها ما طال كلّ مجالات الإبداع الأخرى ووسائل الإعلام من فقدان للمعايير.

*****

الجمال قيمة جوفاء ما لم تخالطه شوائب الحياة.

*****

 في البحث الذي قاده الطبيب النفسي، والمدرس في جامعة “كورنيل”، ديفيد دانينغ، مع زميله المدرس في جامعة “نيويورك”، جاستين كروجر، تمّ التوصل إلى نظرية تقول بعدم مقدرة الانتخابات الديموقراطية على إنتاج قيادات وسلطات مثالية، وهي بأحسن الأحوال لن تنتج أكثر من قيادات وسلطات متوسطة.

هذه النظرية التي باتت تعرف باسم “تأثير دانينغ كروجر” تمّ تعريفها بأنها عبارة عن انحياز معرفي يجعل الأشخاص غير المؤهلين يبالغون بتقدير مهاراتهم، ما يمنعهم من القدرة على تقييم مهارات الآخرين، موهومين على الدوام بالتفوّق.

استطاعت هذه النظرية الكشف عن جانب مؤسف من جوانب النفس البشرية، مقدّمة تفسيراً جليّاً للكثير من المظاهر التي راحت تتفاقم في عصر تلاشت فيه المعايير، وأسهمت التكنولوجيا الحديثة، عبر ما يعرف بمواقع التواصل الاجتماعي، بتعزيزها، عبر تضخيم الوهم، وتحويله في أحيان كثيرة إلى وهم جمعي. من هنا لن يعود مستغرباً الكمّ الكبير من الصفحات الإفتراضية التي يعرّف أصحابها عن أنفسهم بألقاب كبيرة (الشاعر الكبير، كاتب وصحافي ومخرج سينمائي، الأديب العربي…) وغيرها من الألقاب التي يحتاج المرء سنوات طويلة من العمل الشاق لإثبات جدارته بها، ومن ثمّ الحصول عليها وليس إلصاقها عنوة بالذات، كما لن يعود مستغرباً أن تقرأ عبارة على شاكلة: “أردتُ أن أفعل ولكن منعني من ذلك الروائي الذي في داخلي” ويكون كاتبها شاب صغير مايزال تحت تأثير دهشة قراءاته الأولى، ويحاول تلمّس أولى خطواته في عالم الكتابة،وأمثلة أخرى مشابهة شاع الحديث عنها بكثرة في الآونة الأخيرة، خاصّة مع وجود سلطات ثقافية وسياسية فاقدة للمعايير أيضاً، وبالتأكيد خاضعة لتأثير “دانينغ كروجر”، تعمل على تكريس الوهم لدى الواهمين، إمعاناً منها بتكريس نفوذها الذي يزعزعه ويخلخل أركانه كلّ عمل فني أو أدبي حقيقي.

*****

حتى قصيدة النثر المتمرّدة على كلّ القوالب والأشكال المكرّسة، هي كلاسيكية حين تكتب بإتقان.

*****

 وهم التفوق في عالم فاقد للمعايير يعني خواءً لن ينتج غير صفير باهت مؤذٍ برتابته.

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن رامي طويل

رامي طويل
قاص وروائي وسيناريست سوري من مواليد 1974 صدر له: القصة القصيرة: مجموعة بعنوان "الخاتم" عن هيئة الكتاب في سوريا 2008 مجموعة "قبل أن تبرد القهوة" عن دار الساقي في بيروت 2015 الرواية: "رقصة الظلّ الأخيرة" عن دار الساقي في بيروت، 2013 "حيوات ناقصة" عن دار الساقي في بيروت 2017.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *