آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » من الرقة إلى مسكنة

من الرقة إلى مسكنة

هناء الصلال  |

تطارد خيوط الفجر كطائرة من ورق ألوانها بلون السماء والشفق.. خيطها بكفك كما الأمل مربوط بأرواحنا نخشى عليه أن ينقطع.. تلك البادية المنبعثة من عمق الأرض تفوح منها رائحة الزيتون والتراب الأحمر يهاجمك العبق بوحشية معشوق يستقبل العاشق الذي عانق السهل والأفق..

تجلس تلك القرى المتوزعة كشتلات خباز تغريك للجلوس على راحاتها المخضرة بعد عناق المطر وسخاء السماء..تارة تجدها مجتمعة وتارة متفرقة وبكل حلاتها ملهمة .. على أطراف مسكنة يستقبلك الباعة يعرضون خيرات البادية بنفس طيبة ورائحة اللبن (سطل الخاثر) يجذبك كالمسك يأسر شهيتك بلا مقاومة تتوزع تلك الخيرات مع ساعات الصباح الأولى فملك الرزق سمى لكل سائر أوعابر قوته ما أمكنه.. للجغرافية في تلك البادية لوحات خطتها أياد الفلاحين بموهبة من فطرة السماء التناسق والإبداع يبهر الناظر إليها ..كلوحات هندسية صممها فنان.. تمتزج البساطة بهبات الرحمن فتشاهد المعجزات.. عندما تنحدر باتجاه البحيرة لتسلك الطريق إلى تلك الأرض الجوفاء.. تيقن بأن الفرات نهراً من الجنة تنعكس على سحطه الهادئ زرقة السماء وتجذبك رائحته المفعمة بسر الحياة.. هناك عناق لآله الماء مع ملكوت السماء.. أنت لست على الأرض أنت في جنة الله.. أشجار الزيتون  تستقبلك أوراقها الصغيرة تتحرش بوجنتيك كريمة فهي شجرة الله المباركة.. تلتمع ثمارها مع انعكاس الضوء كأنها الياقوت هبة الخالق لخليفة الأرض..تحيا الناس ببساطة لا تكلف ولا حضارة لغة التواصل كلمات بطيبة ساكنيها..

البيوت مشرعة الأبواب، كل البيوت بيتك بدون أن تستأذن تكون في وسط بساتين الزيتون تحتسي الشاي مع الجالسين.. متخمة الحياة بالسليقة خالية من الرتابة والتكلف.. ترسلني عمتي لايصال (الطعمة ) سكبة من الطعام إلى بيت الحج عبدالقادر ..في طريقي اكتشف أنواع الأشجار في سور بستانهم وأسرق بعض التين المتدلي ..هو يغري شهيتي بلونه الذهبي والقطر يدمع على ثماره الناضحة هي دعوة من الطبيعة فأمد يدي..ويوم الأحد هو يوم البازار نحمل السلال مع ضحكات الصباح الأولى قبل أن تنجلي ونتجه إلى الشمال..

تصطف البسطات على امتداد البصر والحناجر تصدح بعبارات تجذب سمعك.. لا تعلم أي وجهة تتجه فكل ما حولك دعوة مفتوحة للاقتناء..

عندما ترتفع الشمس لكبد السماء نكون قد أنهكنا التسوق نحمل تلك المشتريات كماجميع الناس لنشترك مع الجارات بالحي بعربة تحمل الحاجيات وتوزعها على أصحابها..

في زيارتي الأخيرة بعد وداع ذكريات الطفولة لاأعلم ماذا تغير فينا.. هل أنا من تغيرت أم أن تلك المدينة أصبحت كف عجوز مرتعشة..طالتها تلك الغمامة السوداء وغطت بساتينها المبتهجة غزتها السنون العجاف.. هل تغيرت أم أن الخمار الأسود على عيني غير ملامحها؟

كل الأبواب موصدة وكأنها تخشى استقبال الغرباء.. ما كان عهدي بها تنكر الأحبة..

تلك الغزالة الهاربة من ذاكرتي تعشق بساطتها العذبة..

تعشق هديل الحمام في غسقها وتغريد الطير على أشجارها..

أتنفس الواقع حسرة وتنجرح تلك الغزالة برصاص الدخلاء.. وأعود بصمت وتنطفئ اللهفة..

أبكيك أم أبكي تلك الطفلة المعذبة التي نامت شتلة وأصبحت سنديانة عجفة..

ألملم الصور وأكتبها حروفاً من نار الذكرى وأعود مغمضة الفؤاد على دروب الخفسة ما عادت تلك الغافية في جوف الأرض مدينة أحلامي ومأرب النفس كلما سرى الشوق إلى ديار الصبا..

خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

في حضرة الغياب

وحدهم أولئك الذين يتقنون فن الغياب قد فهموا لعبة الحياة، فلا تنفك هي تبحث عنهم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *