آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » لابد من جمع شيء ما

لابد من جمع شيء ما

عمار عكّاش  |

لا تعود الشِباكُ في هذه الأيامِ بحطامِ مراكبَ وبأسماكٍ غير مألوفة، فهواةُ الصيدِ يكادونُ يماثلونَ هواةَ جمع الطوابعِ، لا بدّ من جمعِ شيءٍ ما في نهاية المطاف..

 لا بد من تكديسِ شيءٍ ما، لا بدّ من ذلك رأفةً بنا، ولكي نلبسَ فراء قارضٍ يخبّئ البلوط والجوز القاسي مثل حسابٍ بنكيٍّ يقيهِ يوماً أسود..

فتحتُ البابَ، لففت درجَ الخشبِ، ووَزّعتُ نظرتي على طَرفيَّ ولم أحمِ ظهري، أنتظر مفاجأةً غادِرةً تغيّرُ مزاجي. هناك رجلانِ يتكهّنان عَرَضَاً فقط بسرِّ الرجل المهاجرِ ذي المعطف الطويلِ، ويكملان احتساءَ الشاي على كرسيّ تقليديٍّ واطئٍ، وبعد قليلٍ هناك صبيّةٌ في أول العشرين، تظنّ امتلاكها فرجاً ونهدين و وِرْكاً كفيلاً باقتحامِ كل الرجال، وقبل قليلٍ ستُقـبِلُ فتاةُ جامعيةٌ من شدّة حرصها على منعِ ثديها البريِّ من التدلّي بإرادته الذاتيّة من فتحةِ البلوزِ الأليفِ، تقول لي إجابةً عن سؤال عادي ودون سياقٍ واضح:

 I have a boyfriend

عبرتُ إشارةَ المرورِ وطأتُ المرجَ، أخذْتُ رصيف الميناءِ، حاذرَ الصيّاد ألا يصيبني بثقّالة سنارته، والكلب شمّني في مشواره البحريّ، ولأنه لا يتحدث العربية أو الانكليزية أو الفارسية، وخشيةً من سوء تفاهمٍ بيننا، طمأنني صاحبه فخوراً بمنجزه بابتسامةٍ مترجمةٍ إلى لغتي الأجنبية!! .

شيئاً فشيئاً شرعتْ كل الحيوانات تحتشدُ حولي: القارض وجوزه، الكلب، الثدي الراغب بالتدلي، السمك، قضيبي…. دماغي يعجُّ برفسهم وعضّهم، وصراخهم.

لم أكدْ أعبر الشارع حتى لبّتْ وعدي مصادفةٌ مروريّة مباغتة، لم أرَ لونها ولا شكلها ولا وجه سائقها الأرعن أو سائقتها، طِرْتُ في الهواء كأنني انا الطفلُ نفختُ نفسي زهرَ هندباءٍ، وسمعت كل عظامي مثل فرخِ طير هرسوهُ، سَمَحَتْ لي بقايا رقبتي بانحنائةٍ صغيرة، رأيتُ قدمي وشجرة الرصيف ونقاط سوداءَ، وسمعتُ الناس تحتشد حولي وتهمس برعبٍ وبتعاطف عجيبٍ، إنّهم يعرفونني الآن دون وَساطاتٍ ودون اسمٍ، محتضرٌ فقط، وبعد قليل سيكون اسمي: (ميّت) فقط، لستُ بحاجةٍ لشرح شيءٍ، والإجابة عن شيءٍ و لا لأن أروي فضول أحدْ.

 لست غريباً بعد الآن، أشبه كل وجوه موتى المحتشدين حول جثتي، لم أعدْ الرجلَ ذا المعطف الطويل، لم أعدْ رجلاً بقضيبٍ يحملُ احتمال الانغرازِ في كل أنثىً يصافحها…

لم أعد مهاجراً، انا ميّتٌ وأشبهُ كلّ الموتى، يا لنعمتي يا لعافيتي. لم يعدْ طعمُ الطعامِ التركيِّ الذي لم يتقنْ طاهيهِ مزجَ بهاراتهِ يزعجني، لم تعد إضافة بعض السكر لكأس المريميّة تقلقني، لم يعد التعلّق بحبٍّ، ولا خوفٌ على إبطيَّ من غياب يدٍ تمرّ من تحتهِ عند نومي يقلقني، يا لنعمتي يا لحريّتي من شهواتي وأحلامي، وهواجسي، ووساوسي يا لحريتي من نفسي، أطفئوا مواقد الخشب الممزوج بالنايلون، فالدفء يغمر جثّتي من ثديِ الجامعيّةِ المتدلّي فوق وجنتيَّ…

أخيراً، رماني أحد الصيادين في سطل سمكهِ الميّتِ، فتحت أسماكه عيونها، وأغلقتُ عينيَّ، كنت أجمل سمكاته، فرحَ الصيّادُ بي، فلا بدّ من جمع شيء ما… لا بد من تكديسِ شيءٍ ما… صار بوسعي أن أموت الآن حبوراً، وأن أستمتع بهذه المصادفة…

كاتب ومترجم سوري  | مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *