آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » الشعر الذي يقفز.. له زمانه ومكانه المستمر

الشعر الذي يقفز.. له زمانه ومكانه المستمر

أحمد محمد السح |

كان الشاعر الراحل سعيد عقل في غير مرّةٍ يكرر عبارة بالمحكية مفادها: ( أريدُ شاعراً يخلق وطن، كما هوميروس خلق اليونان). هذا التصور الذي كان سعيد عقل يعتبره دليله على جودة شاعرٍ أو على ضعفه.

الخلق، وليس أيما خلق، خلق أوطانٍ بأكملها، وهنا تحضر عبارة الزعيم الانجليزي تشرشل: “إن بريطانيا مستعدّةٌ للتنازل عن جميع مستعمراتها، وليست مستعدّةً للتنازل عن أدب شيكسبير”. وقد كان بهذه العبارة يتكلّم بلغة المنفعة، قبل أن ينطلق من روح المثل العليا، لأن بريطانيا من الناحية الواقعية قد عجزت عن الاحتفاظ بمستعمراتها، أمام حركات الاستقلال والتحرر التي انتشرت في أنحاء العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بريطانيا لم تخسر نفوذها الثقافي، ونفوذ سيطرة لغتها، وبسط لغة شكسبير ومفاهيمه على المسرح في كل أرجاء العالم.

الشعر الذي يطمح لإحداث يخلد، هو الشعر الذي يطمح لإحداث نقلةٍ جديدة، وهو الشعر الذي يقفز عن تيار زمنه، فإذ به ينقل معه لغة العالم، وقد كان للشاعر السوري أبي تمام الذي تحدر من مدينة جاسم بيتٌ ذو حادثةً هامة تؤكد قفزته الهامة عن شعر العرب، يقول :

لا تسقني ماء الملامِ فإنني         صبٌّ قد استعذبتُ ماء بكائي

فجاءه واحدٌ من أولي النقد بدلوٍ فارغٍ، وقال ساخراً: ” يا أبا تمام، املأ لي هذا الدلو من ماء الملام ” فردّ الشاعر على الفور: ” اذهب، وإتني بريشةٍ من جناح الذلّ،  أملأه لك. ” وتلك حادثةٌ تروى للطرافة، إنما وراء طرافتها تحملُ أكثر من دلالة شعرية  فأبو تمام الشاعر التأسيسي اصطدم بالذوق اللغوي السائد اصطداماً مباشراً أدى إلى ما يشبه القطيعة بينهما، ولكن الصراخ الذي ارتفع في وجه أبي تمام ذهب في مهب الريح. ذلك أن ما كتبه أبو تمام هو شعرٌ حقاً، بل هو شعرعظيم على مستويين معاً: مستوى الثقافة الجديدة التي تمثلها، ومستوى اللغة التي فجر طاقاتها.

أبو تمامٍ نفسه استطاع أن يخرج من إطار القصيدة الحدث بقفزاته الشعرية، فبدل أن تكون قصيدته مرجعاً لحادثةٍ تاريخية كما فعل الكثير من الشعر الذي صار جزءاً من حركة التاريخ، لا محركاً للتاريخ، وهذا النوع من الشعر امتد حتى أيامنا هذه، الشعر الذي يشبه الأنباء العاجلة ولا يخرج عن اتساع ورقة الروزنامة اليومية، لكن الشعراء الذين يقفزون خارج الأيام والأوراق ومؤسسهم أبوتمام استطاع مثلاً من خلال القصيدة التي يصف فيها فتح عمرية أن يخرج من مضمار مستوى القصيدة – المعركة الحدث ليجعل منها حكايةً شعريةً لا تتوقف أمامها الدراساتُ إنما تنطلق منها لفتحِ آفاق جديدة، وهذا ما افتقر إليه شعراء الوصف، وشعراء الأحداث اليومية. وافتقرت إليه قدرة النقد على التجاوب السريع مع الأدوات التي يجيء بها الشاعر.

منذ أكثر من أربعة عشر قرناً أصدر الناقد الانجليزي (ويلبر سكوت) دراسة مهمة للنقد الأدبي سعى فيها إلى سبر النتاج النقدي ورسم اتجاهاته  وذلك عبر استكتاب أشهر النقاد الانجليز، فجاء مشروعه تحريضاً قوياً على العمل الجماعي في نقد النقد  وهذا ما نفتقده في الكتابة والنقد منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، حيث تتورم النزعة الفردية إلى أقصى الحدود، مخفيةً عجزاً شديداً في قدرة كل منا على إنجاز مهمة صعبة، لا بل تبدو أدواتنا التي لانحسد عليها معيقاً كبيراً لأي تطورٍ يهرب فيه خيال الشاعر من قوقعة الأدوات،  ولكن المحيط يدفع به إلى العزلة المرفوضة، ويجعل من قفزته في الهواء، فأي شاعرٍ شاء أم أبى يبني أمله على أن يفهمه أحدٌ ما،  على “صداقةٍ لا مرئية مع قارئ مجهول” على رأي (سول حمزاتوف)، وهي نتيجة لإخلاص والثقة بالمشاعر التي يعبر عنها الشاعر، فالصديق الحقيقي في حياتنا اليومية يفهمنى تلميحاً، وكذلك تكون صداقة الشاعر مع القارئ، علاقة صداقة حقيقية تجعل من القارئ يفهمه تلميحاً، دون تعبير.

لا داعي للبلاغة المتبجحة التي تنفر الصديق \ القارئ ، الذي قد يرمي بالشاعر إلى العار والنسيان. ويا شعرنا الحديث أو المعاصر أو ما بعد الحديث، نجد أن الشعراء منذ الحرب العالمية الأولى وجدوا أنفسهم، يتطلعون إلى آفاق شعرية تغاير الموروث التقليدي، فقد وجدوا أن الوزن الخليلي وصل مع شعرائه الكبار إلى كمالٍ لا يمكن تجاوزه، وأنهم أمام أمرين : إما أن يكرروا هذا الكمال ( شوقي – البارودي نموذجاً) أو يحاولوا ابتكار طرائق جديدة للتعبير  ( جبران – مطران – نموذجاً آخر حينها ) وهكذا نشأ بين العشرينات والأربعينات جهد شعري لفتح آفاق وطرق تعبير جديدة كانت الحصيلة خلخلة لبعض المفهومات، وتمهيداً لما سيأتي في الخمسينات التي طورت قفزات شعرائها ووسعتها، وأسست في مرحلة قصيرة إلى قفزة تلتها قفزة ربما قبل أن تكتمل القفزة الأولى لتأتي قفزات شعراء الستينات وتجريدهم وتجريبهم المسؤول، أسس لحركة شعرية لم تتبعها قفزات أخرى تستحق الوقوف، وذلك كله ارتكاس للمرحلة السياسية التي عاشتها المنطقة، الخانقة لكل فكرة تنويرية، تستطيع أن يكون الشعر جوهرتها الأسمى على تاجها، لا بل إن قفزات الشعراء صارت، ومتابعات النقاد لها صارت أسوأ من متابعات ابن عمار لشعر أبي تمام ونقده، وهي لا تدرك أبداً أن الشعر مخاطرةٌ أبداً – أبدأ مرةً وربما تكون المرة الأخيرة – وهو ليس عملاً فارغاً وهو على الأخص ليس وسيلة لإرضاء الغرور حين يخيل للفرد أن كل شيءٍ مباحٌ له.

إن الكثير من أبناء الشعر هذه الأيام يعتبرون الأمر كذلك، وأنها مشاعرهم التي لا يمكن لأحدٍ أن يفرضها عليهم، وهو صحيح، ولا ينفي أن الضفة نفسها التي يكون فيها الشاعر الحقيقي، يتواجد فيها الناقد الحقيقي الذي يساعد الشاعر على إدراك بطائن نفسه، وجمالياتِ ما يقول، فالجميع يخضعون للشعر، كما أنهم يخضعون للحب في مختلف أعمارهم. وهي التجربة الأبسط وأنقى للانطاقة التي تأخذ بلب الشاعر، فالشعرُ يقرأ في الآتي، والشعر الحقيقي لا يواكب الأحداث، برأيي، ولا يتطاير مع الهلوسات، الشعر يستشرف الأحداث، وسيبر أعماق المشاعر، ويوثّق مفاصل تلاقيها، الشعر الذي يمشي مع الأحداث هو شعرٌ أعرج، لا يستطيع القفز فوق الجبال وألأشجار، ولا يحلم بأن تطير معه، وأن ينقل زواياها ويعبث بمفاتيح فتنتها.

خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …