آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » «الموت عمل شاق» لـ خالد خليفة: عندما تكون الجثة بطلاً

«الموت عمل شاق» لـ خالد خليفة: عندما تكون الجثة بطلاً

فؤاد ديب |

هل تعلم ما معنى أن يناديك والدك عند النفس ما قبل الأخير بإغماضة من جفنيه وإيماءة من رأسه  المتعب؟ وكيف ستجر قدميك نحوه وأنت لا تعلم أنه يريد أن يتلوا عليك وصيته بأن يدفن جانب أخته؟ والتي ستحتاج منك قراءة رواية عن الحرب والموت والقبور الجماعية، حتى الجثث تريد أن تكون بالقرب من أهلها لأنها تشعر بوحشة بين جثث الغرباء.. ولأنك لا تعرف ماذا تفعل عند عتبة الأمنية الأخيرة لرجل على حافة الموت  ستدخل إلى تابوت الوعد بتنفيذها. 

هكذا هو الوعد شاق، بما يكفي، كالموت، فكما الوعد يحتاج عملاً مضنياً وسفراً طويلاً لتنفيذه الموت هو أيضا عمل شاق.. 

في روايته “الموت عمل شاق” يسير بنا خالد خليفة في طرقات دمشق التي نعرفها نحن الذين كنا نعيش هناك.. نعرفها ونعرف طرق سفر سورية التي كانت سريعة نوعاً ما لكنها أصبحت مقطوعة ومقطعة الأوصال بحواجز أقلها اسمنتية لكنها أعمق من ذلك بكثير فالحواجز النفسية والإجتماعية والدينية تراكمت فوق بعضها ببنية معقدة تناوبت عليها سنون طويلة من غبار الخنوع والتجهيل الممنهج وكتم الصوت المغاير لاتجاهات صوت الحديد.

في هذه الرواية يضعنا خالد خليفة أمام لوح زجاجي عكس هشاشة كذبتنا، ففي الطريق من دمشق إلى العنابية القرية البعيدة في الرقّة في مكرو باص مع جثة عبد اللطيف التي تتعفن رويداً رويداً، وتنتفخ وتنز بكل ما في جوفها من أمراض وتقيحات! في هذا الطريق الموجع، طريق الألم والدم الذي سال بين مدن وقرى سوريا، وأصبح عصي التجفيف، كما يصعب ترك الدمل دون تفجيره معادلة لا يمكن تخيل عجزنا عن حلها!

الدم يجر الدم، والمشكلات تجر المشكلات، وإن ترك الدمل دون تفجيره في الجسد سيقتله، وهكذا هي مشكلات الأخوة الثلاثة ترميزاً لما يجري في بلاد الحرب، وما فقدان فاطمة لصوتها إلا تعبيراً عن كتم صوت الطرف الضعيف المقموع في هذه الحرب، وهو الشعب الذي ما إن علا صوته قليلاً حتى تم كتمه ووضعه بين مطرقة الرصاص وسندان الموت، وما بينهما من خوف ووجع .

الجثة بطلة الرواية هي جيل الشعارات المخدوع الصامت، جيل الأخت التي قالت: لا..! ثم أحرقت نفسها كي تعترض على تزويجها، بينما وقف أخوها ينظر إليها صامتاً وهي التي لم تكن تتوقع أن يساندها غيره، لكنه خذلها، وما وصيته أن يدفن معها في نفس القبر إلا تعبيراً عن ندمه، وما تعفن جثته في الطريق إلا عقوبة  صمته وعجزه عن نصرتها ومرور جثته عبر حواجز الذل والقهر والعذاب والخوف والاعتقال حتى الجثة هي تعبير فج  عما أوصلنا إليه هذا الصمت الطويل.

وعلى المقلب الآخر هناك حواجز أيضاً لا تختلف بشيء عن نظيرتها بل هي نسخة مكررة ومشوهة مثل كل شيء لدرجة القرف، نعم اعتقال جثة منتفخة تكاد تنفجر ومن لا يعرف رائحة الجثث حين تنعفن وتنتفخ وتنز قيحاً لا يعرف معنى العيش في بلاد لم يعد هناك ما تفعله سوى الموت.

في هذه الصفحات يضعنا خالد خليفة في تابوت متنقل (ميكرو باص) مع جثة حاولت آخر أيامها أن تفعل ما لم تفعله طوال عمرها، فثارت وأحبت وصرخت وخرجت في مظاهرات ضد الظلم، حاولت أن تصلح ما أفسدته طوال عمرها بصمتها، لكنها حين قررت أن تفعل ذلك كان الزمان قد أتى عليها وعلى ما تبقى من عنفوانها، فماتت وفاحت رائحة تقيحاتها ووضعت مع الأحياء، وما إن اشتمت الكلاب هذه الرائحة حتى هجمت عليهم بشراسة تريد نهشهم أحياء وهم في تابوت معنوي مع جثة مصيرها الإنفجار بما حملت في داخلها من أمراض وتناقضات حتى عندما أرادت أن تزرع الورد زرعته في مقبرة وزينت ورتبت مقابر الشهداء، وما قصص الحب في الرواية إلا تعبيراً عن هزيمتنا الداخلية والخارجية، وعجزنا عن تحقيق أبسط حقوقنا بالارتباط بمن نحب وهدم العادات ونسف الحواجز التي بنتها الطوائف والأديان بين أبناء شعب اعتقدنا حتى سنوات خلت أنه واحد..!

لتكشف لنا رواية الحرب أن هناك الكثير من الجمر تحت رماد القبضة الحديدية التي غذت هذا الجمر كي تشعله عند أول هبة حياة حركتها الريح حوله الموت عمل شاق (بلبل، حسين وفاطمة) ثلاثة إخوة  في تابوت مع جثة متعفنة.

كاتب وشاعر فلسطيني / خاص بموقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …