الرئيسية » رصاص ناعم » الكتابة هي أن أولد بلا وجه..

الكتابة هي أن أولد بلا وجه..

ندى القيّم  | 
في الحقيقة لم يعد يعنيني أن يتم زيادة ساعات التقنين، أو أن يتوفر الغاز في المدينة، أو أن أشتري لهذا الشتاء معطفاً ثقيلاً من بالة أوغاريت.
لقد تجاوزنا مرحلة الإحساس حتى صرنا لا نتأثر بالوخز أو بالإبر السورية، لأن الصينية منها تكسرت على أجسادنا المتيبسة.
لم يعد يهم إن فتحت النافذة صباحاً لأجدد الهواء، الأوكسجين لم يعد أصلياً، وكأنه مصدّر من دول تعاني من الربو والتهاب القصبات المزمن. اليوم تنفست هواء بنكهة مرّة وكدت أتقيأ لولا أن جارتنا نصحتني ببعض البابونج.
القهوة فقدت نكهتها البرازيلية الشهية، ولم تعد تغرينا إعلاناتها على التلفاز وهي ترقص سامبا بعلب سمراء ممتلئة القوام. والقهوة الوطنية هزيلة ضعيفة، لاخصر لها ولا تضاريس تذكر، حتى أنها لا تعرف العزف على أوتار النكهة وتتعثر في حال شبكت يديها بحلقة دبكة.
الفاكهة مثلاً لم تعد تُربى على الأصول، فالتفاحة نسيت خدودها الخجولة تحت الشجرة ولونت شفاهها بصباغ أحمر وقح، والليمونة الأم تركت صغارها يبكون في الصناديق دون رحمة، والموز ضحك بأسنان صفراء ومشى مع تيار الريح حاملاً علماً أخضر…
البارحة سمعت عبد الحليم يغني لميرفت أمين، القلوب تركض بينهما على شاطئ الاسكندرية، والشمسيات تظلل الأجساد البريئة على الرمل. منذ سنين لم أطأ الشاطئ ولم أذق الملوحة إلا في الطعام البائت وربطات الخبز المكدسة في فرن الدولة “المدعوم”.
لم يعد يثير اهتمامي إعلاناً عن مسابقة أو وظيفة، بل إنه لخبر مضحك فعلاً، يذكرني برحلاتي السابقة إلى العاصمة وأنا أحمل نفسي وحقيبة كتب غبية ساذجة كانت تحلم بدرجات نزيهة ومنصب يؤمن لقمة نظيفة بدلاً من موائد الذل وقلة الشرف.
البلدية تحفر الشارع أمام منزلي، لا أعلم لماذا؟، لكنها تظل منهمكة بأعمال الحفر والصيانة على مدار العام وفي الزيارات الرسمية لأصحاب الشأن والذقن. آلة الحفر العملاقة تدك الأرض بمنقارها وتثقب السماء بصوتها الفارغ.
حقل جديد يحترق بمحصوله على أطراف الصحراء، الأهالي البسطاء يتفرجون بعيون عمياء و يصفقون بأصابع مشلولة، والقحط يمتد وينتشر كالسرطان. الصلوات تُرفع للاستسقاء يومياً لكن الطريق لا يؤدي إلى المطر.
لم يعد محفزاً أن تكون مثقفاً أو من كتاب القصة، كل القصص هرب أبطالها الذكور بأرواحهم، وأما بطلاتها الإناث يسرّحن خصل الزمن بمشط مكسور الأسنان، و الكتّاب اليوم هم نفسهم أصحاب دور النشر أو من معارف رئيس التحرير. الكتابة عبء ثقيل ولم يعد يعنيني أن أكتب حقاً.

 سورية |  خاص موقع قلم رصاص 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *