الرئيسية » رصاص خشن » « البرغي » قصة قصيرة

« البرغي » قصة قصيرة

كتب رجل من المشردين، يسمي نفسه البرغي:

كنت في الصالة لوحدي، الأولاد في غرفهم، زوجتي نامت مبكراً، إنها تصحو عادة عند السادسة، كنت أفكر كثيراً بالسيستم، ولقد ضغطت عليّ في الفترة  الأخيرة  هذه الماكينة عديمة الرحمة، قلت لزوجتي قبل هذا: النظام عجن حياتي وحولها إلى شيء ما يشبه قيء قطط أو براز كلاب مصابة بالإسهال.

 اعترضت على لغتي السوقية، قالت: لم تعد تطاق يا رجل، عليك أن تكون مهذبا وعاقلاً، لا يليق بمثلك أن يتحدث بهذه الطريقة. وفي الواقع حتى صديقي الوحيد السيد “لوك” لم يتفهم شعوري بعدم الطمأنينة لقد قلت له: أنا غير راض عن نفسي يا “لوك”، ضحك السفيه، تخيلوا، ضحك كثيراً كما لو أني أسرد له نكتة، قال: يبدو أنك تحتاج فعلا لزيارة مصحة نفسية.

لم أنم تلك الليلة، عند الفجر، خرجت إلى الحديقة، فتحت الباب، ثم وجدت نفسي وحيداً في الشارع، كنت أفكر بأشياء كثيرة حول علاقتي غير السوية بهذا العالم، لا أبدو  متصالحاً اطلاقاً مع ما يحيط بي، المشكلة أن زوجتي، حتى زوجتي لم تفهم، قلت لها ولمرات عديدة: إن المؤسسات بدأت تضيق الخناق عليّ، إنها بالحقيقة تحولت مع مرور الوقت إلى أشباح تفسد حياتي.

ولقد أظهرت للأمانة  شيئاً من العاطفة الاستثنائية، قالت مثلاً بعض الكلمات الطيبة التي لم أسمعها منذ مدة طويلة: لا يمكنني تحمّل حتى الكلمات السحرية التي لا أشك أنها تنبع من قلبك المحبّ، رغم ذلك، اسمحي لي أن افكّ هذا العقد. قلت لها فتغيرت ملامحها، قطبت حاجبيها، لوت شفتها بطريقة  من يقول اذهب إلى الحجيم، ثم  وجهت خطابها  لي  بدون أيّ حركة تدلّ على الدهشة أو حتى الانزعاج: كنت أعلم أنك سوف تقترف ما هو غير سويّ، وكنت مستعدة لتلقي فظاعة مثل هذه في يوم من الأيام، على كل حال، لست مرتاحة لهذه الخطوة المشينة. أما  بالنسبة لاولادي الثلاثة، كنت قد اجتمعت بهم قبل يوم من خروجي، لم يكن أي منهم مستعد لإضاعة الوقت مع أب لا يبدو طبيعياً، قلت: ليس عليكم أن تشعروا بالخيانة، يبقى العالم في النهاية، مجرد تجربة شخصية. بالنسبة للولد الأكبر كان يعبث بهاتفه النقال، رفع رأسه وكان شديد التأثر، الحقيقة آلمني ذلك، لكنه قال: ماذا أقول لأصدقائي، إنك تضع رأسي تحت مؤخرة بقرة لتلطخه بالغائط. ابتسمت، وماذا يمكن أن يرد أب، لم يعد يفهم العالم كما يجب: اسمع يا عزيزي، قل لهم مثلا أنه كان بغلاً في مزرعة العائلة، بغلاً وحسب، أصيب بشيء ما غالباً ما يصاب به هذا النوع من الحيوانات فتهرب أو تنتحر في أحوال أخرى، حسناً، إنها تفعل في بعض الاوقات أشياءً مشينة. وفي الصباح كنت قد خرجت مبكراً، تناولت قهوة في محطة القطار، ثم توجهت الى مكان عملي، حدثت المدير عن قراري بالتخلي عن وظيفتي، قلت له بأني لا أريد حتى تلك المساعدات السخيفة التي يدفعها مكتب العاطلين عن العمل: إنها لفكرة شديدة الغباء وقاسية أن اقضي في هذه البناية البائسة ثلاثون عاماً مثل البغل، ألا تعتقد أني تعفنت !!! بالنسبة لك، تبدو شديد القناعة أن جسدك ما زال يحتفظ برائحة مقبولة، ولكن هل تضمن على الدوام عدم اكتشافك أنه لا ينبغي للبغال الاستمرار على هذه الكيفية المزرية. وفي نفس اليوم، انهيت بعض الإجراءات، تنازلت مثلاً عن حقي في البيت لصالح زوجتي، لقد دفعت قبل شهرين آخر مبلغ ـ للمؤسسة البنكية، قلت لها: لا يبدو ثمناً جيداً لتحملك سخافاتي يا عزيزتي، وعلى كل حال، لا يمكنني أن أمنح شيئاً أكثر من هذا، اهتمي بالفواتير، فواتير الكهرباء، الانترنيت، التأمين الصحي، المواصلات، المدارس، التامين على الحياة، التأمين من الحريق والسرقة، والتأمين ضد الكآبة، وعاقبة السوء، التأمين ضد جفاف البشرة، والتأمين ضد الاسهال، وضد الكآبة، استمري بمراجعة المؤسسات للتوقيع على الكثير من الأوراق، وقعي على كل شيء، وكوني مطيعة لمديرك، لا أحد يضمن هؤلاء المناويك، يمكن أن يطردك، فتقفين على باب مكتب العاطلين عن العمل، كوني مثل الأتان، ولا تخالفي أوامره، احتفظي دائماً بابتسماتك، ولا تقولي أفا له، لا تنسِ أيضاً أن تستمعي بأيام نهاية الاسبوع، نامي جيداً، لكي تستيقظي يوم الاثنين عند السادسة، أعتقد أنك تحتاجين لكي يقال عنك امرأة متمدنة وراقية وجميلة، ساعتين من الغسل والمكياج واختيار الملابس المناسبة عند المساء، أخذت بطانية وحقيبة صغيرة تافهة، وضعت فيها بعض الأشياء التي اعتقد أنها أهم الشروط التي تجعلني أبدأ حياتي الجديدة، ماكينة الحلاقة مثلاً، دفتراً وأقلام، وكتاب قرأته عشرات المرات يتحدث عن رجل تحول إلى برغي، كان ذلك في الساعة الثامنة مساء من أحد أيام شهر افريل، وكنت سعيداً، ولكني قبل أن أخرج، لم أنظر لأي من تفاصيل البيت، لم يعد فيه ما يدهشني، قلت لأفراد العائلة الذين اجتمعوا في الصالة الواسعة لأول مرة وبهذا الاهتمام كما لو أنهم يحتفلون بالتخلص مني أخيراً: أنا رجل ملعون، ولكن ما رأيكم بتناول كأس أخيرة بصحة رجل يبدأ رحلته إلى الحرية أو هكذا يظنّ. لم يعلق احد منهم، لم يهتموا لهذه الدعوة التي تبدو غير جادة اطلاقاً، لكني على الأقل، أظهرت شبئاً من الظرافة وأنا أودعهم، لم أكن حزيناً، في الحقيقة، ولا أدعي أني كنت سعيداً كذلك. فقط، شعرت بخفة عجيبة، ولقد اخترت مكاناً مناسباً، هناك بعض الملعونين مثلي، رحبوا بمشاركتي إياهم المكان، أعتقد أن الأيام سوف تظهرني قليل الخبرة مثل طفل صغير، هذا يحدث للجميع، لكني سوف أتعلم بعض الأشياء هذا مؤكد، أنفاق المترو هي أمكنة عاطفية جداً وليس مثلما يتخيل الكثيرون، لا أدري ربما تحررت تلك الأشياء التي بقت محشورة في داخلي ، أشياء لم يكن من المناسب إخراجها في أي وقت مضى.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن زهير كريم

زهير كريم
زهير كريم، قاص وروائي عراقي، يحمل الجنسية البلجيكية ويُقيم في بروكسل، مواليد بغداد 1965، صدر له: "قلب اللقلق"، رواية عن دار فضاءات عام 2011، "صائد الجثث"، رواية عن دار أثر عام 2014، "ماكينة كبيرة تدهس المارة"، مجموعة قصصيية عن دار المتوسط عام 2017، "فرقة العازفين الحزانى"، مجموعة قصصية عن دار الرافدين عام 2018، "رومانتيكا"، مجموعة قصصية عن دار سطور عام 2019، "غيوم شمالية شرقية"، رواية دار سطور 2020.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *