آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » مختارات من رواية “زغب الخوخ”

مختارات من رواية “زغب الخوخ”

ألا ترى أن بين السماء والأرض تزاوج ندعي أننا لا نفهم كنهه.. حتى التفاحة ولدتها أرض حين أفحمها الخريف، فابتسمت في مطلع الربيع، ثم ربت بماء سحاب هائج وقد راودها برعده وبرقه.!! كما شهوة الفكر تثيرها فصول الروح، فصول أكثر شحوبا وجفافا من الخريف، وعندما يبتسم الحب أو الخطيئة لا أحد يدري، يولد كائن جميل كإنسان أو تفاحة أو رمانة.. أو خوخة، أو أي موضوع يمكن أن يكون حياة بالضبط كبدء الكون.. فكما بين السماء والأرض ماء بينه وبينها ماء.. كما بين الفكر والورقة ماء أيضا، غير أن لكل ماء لونه ومعناه، لكن الذي غير الكون ماء آخر.. ماء بألوان كثيرة، حتى جعل الوجوه تتلون، تبدل قبلتها متى شاءت، ماء أذل من أذل وطغى به من طغى، ماء لا علاقة له بالمحبة والتواصل.!!

عندما اضطربت عقول الجميع واضطرب الكون راح كل واحد يهرع، يريد أن يصير آدم فيبدأ كونا من جديد، فتكثر مواليده ويصنع أمّة أخرى غير التي مسخت.. فزادت العملية تعقيدا، لأن كل زاعم وجد نفسه أمام نساء كالنجوم، وغابة من شجر الإغواء، ووجد أنه لا يرغب في التفاحة وحسب، بل تعدت رغبته إلى فواكه كثيرة.. إلى البرتقالة والرمانة.. المهمة أصعب من مهمة آدم الأصل فأبونا عليه السلام كان أمام كون واحد وحواء واحدة وفاكهة واحدة، غير أن الذي أفرح آدم الجديد أنه ورث من أدم الأصل الرغبة كاملة وربما أكثر.

سر الغواية هذه المرة خوخة يا آدم.! لا تغضب يا أبي فالفواكه في خلق الله متشابهة، المهم أن الموقف يشبه تماما الموقف الذي أهبطك إلى الأرض، فورثته الخطيئة ثم صعدت، فخفق قلبه هو الآخر وضحكت فأزلته الرغبة ثم أذلته، لا يريد أن يعبث بكل الفواكه كما فعل آدم الجهة الغربية، آدم النسخة القريبة من الصل أراد أن يذوق شيئا من خوخة مسلوخة يسيل سكرها على مقربة منه، وعندما استعصت عليه وفضلت شفاها خفيفة صفراء بدون شنب تعود إلى أصول غير عربية، راح يستميلها بالرسم والشعر والغناء وبكل الفنون:
– عندما تفيضين فوقي يغار البحر وهو الواثق أنه الوحيد الذي يغرق، شعرك الذي انتشر شبكة بين وجهي ووجهك، تتخبط فيه القبلات كأسماك ملونة تفتح لي شهية الإبحار فالغرق فالموت، فتعالي نموت ونبيح الحياة للأسماك.. وإن جف البحر من حرّنا فسيغسلنا المطر بعد حين، وستكتسى أجسادنا القاحلة أوراق أخرى فنهدي الربيع للقادمين من الخريف، ونسقي ماءنا للفارين من الحريق.. نسير معا وكلما تقدمنا خطوة غرسنا تحتها بذرة، لنترك خلفنا حقولا من الورد وخطة جديدة للحب والموت، ثم نركب قوس قزح ونزف العصافير إلى بعضها كي يلد التغريد تغريدا آخر، وننفخ في النجوم لتضيء أكثر، ثم نلبس القمر برنسه الذهبي.. فإذا تراكم الليل فوق رؤوسنا نهمل الظلام قليلا ونلتحم التحاما يلد شروقا جديدا، فتسمر الشمس ضاحكة من وراء الورد الذي أنبتناه، وعندما نفرح بكوننا ويصالحنا البحر ويدغدغ أرجلنا بشاطئه الوديع، يصبح الرمل مهدا يحملنا كالأطفال.. هكذا نكون قد ضربنا موعدا مع الحياة.!!

كل هذا الكلام ومع ذلك كانت غير منشغلة به، تلعب بعينيها خلفه وعلى يمينه وشماله، وكلما مرت بطن بارزة أو لوّح جيب منتفخ فتحت فمها، وفتحت كل شيء منغلق لديها.. لا يدري ماذا تريد؟ شعر بالخجل، عندما أدرك أنه الوحيد الذي أشهر أحاسيسه وأشعل فتيلها، لدرجة أنه هم أن يرتجل قصيدة شعرية، لكنه احتار ماذا يصف وهي مستلقية على ظهرها لا فرق بينها وبين رمل الشاطئ، وجعلتها الشمس تشبه خوخة اكتمل نضجها، يكسو صدرها زغب تمغنطه موجة البحر، فينتصب متى جاءت وينام كلما ولّت.‍!

البحر كما كل صيف مخلص للجميع ويبسط ماءه للعرايا، والرمل كما كل موسم يعانقها من كل جانب، فتبدو كرغيف طازج يثير لعاب الجائعين، أما هو فقد رأى أن الرمل جعلها أرضا أخرى، حتى أنه احتار في أي أرض يقول شعره وقد انبطحت بكل زغبها للمصطافين كما الأرض للمستثمرين.
يبدو أن المكان لم يتسع إلا للشهوة والمال ولا مكان للشعر..! حتى جيبه قاحل يزعج سكونه بيده كلما أدخلها من غير حاجة في هذا الصيف الحار.. ولم يظن قط أن الكون سيضطرب إذا مدّد لسانه كأي طامع أو راغب أو خائف أو غيور لا أحد يدري.. المهم أنه مدّد لسانه إلى خوخة عارية جُن زغبها وتفشّى سكرها، ولم يعد هناك رجل يستطيع أن يعترض طريقها، وقد أوهموها أنها بلغت مستوى لا يُضاهى من الحرية والديمقراطية.

عندما وصل لسانه ابتهجت الخوخة كثيرا، حتى أنها شعرت بوهج عربي وأنفاس دافئة تتلاطم فوق زغبها وقد أنهكها العابثون كثيرا، لكنه لم يكد يجد مكانا بين الألسن الرابضة على كامل مساحتها، كانوا يبدون كالتماسيح، فتخبطوا خبطة واحدة وأزاحوه عندما تبينوا أنه لسان مشحون بخطاب فصيح جاء منقذا ولم يأت للاصطياف والعزف والتمتع.

لا يدري لماذا المصطافون يعشقون سمرتها إلى حد الوله، ربما لأنها تجمع بين ألوان الثروات في هذه الجزيرة التي انفتحت على العزف، كالحصان الذي هتك حرمة ظهره الأسبان ذات احتلال، ربما حان أوان ركوب ظهر الأرض أيضا وقد يكون هذا هو موضع الركوب.

مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن عبد الباقي قربوعة

عبد الباقي قربوعة
كاتب وأديب جزائري، حاصل على دبلوم في قانون الأعمال. نشأ محبا للأدب والكتابة، وأصدر عدة كتب بين القصة القصيرة، والرواية، والبحث العلمي. يكتب في عدة صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عربية، صدر له: “مضغة النار” رواية 2007، “زغب الخوخ” رواية 2007، “دفء معطفها” رواية 2016، “احتراق الألوان” (مجموعة قصصية)، “التربية مفهوم وعمل” (بحث في مجال التربية والتعليم). حائز على الجائزة الثانية للطبعة الثانية خلال الملتقى الوطني الجزائري “الأدبي والفني”، والجائزة الأولى خلال الطبعة الخامسة لملتقى الوطني الجزائري “الأدبي والفني”، الجائزة الثانية للمسابقة الوطنية الجزائرية للعلامة أحمد نويوات بالبرج.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *