آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » في ظِلِّ الرِّيح : غواية الخيال وَعُذوبَةُ السّرد

في ظِلِّ الرِّيح : غواية الخيال وَعُذوبَةُ السّرد

حسب كاتبها، كارلوس زافون؛ لاشيء قادر على التّأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذّي يمسُّ قلبه حقّاً. إلّا أنّه لكلّ قاعدة شواذ، وتكاد تكون روايته ( ظلّ الرّيح )، الصادرة عام ( 2001 )، ملحمةً تجمع بمهارة الحكّائينَ القدماء، مابين القوة وعمق التأثير في نفس القارئ، وبين الدراما والرومانسية المدغومة بغرابةٍ فائقة بالرّغبة الجامحة للقتل والإجرام في قصة تتشعّب حيوات شخوصها، وتتعقّد أحداثها ضمن حبكةٍ ميلودرامية, كثيراً ما تترك مثيلاتها في عالم الأدب ثغرة، إلّا أنّها خرجت على عكس السّائد، نقيّة كملحمةٍ إغريقيّة مؤثّرة كطلَقٍ من العيار الثّقيل.

وعلى مدى (500) صفحة، يأتي الروائيّ  الإسبانيّ المحنّك (زافون ـ 1964) بأسلوبٍ يحبس الأنفاس, ويدفع القارئ لتسلّق سلالم الأحداث، والغرق بين ظلال الكلمات ومتعة التفاصيل.

يتورّط القارئ، بين دقائق الشخصيات التي تصلح كل واحدة منها أن تكون رواية بحدِّ ذاتها، ليتعمّقَ بقلمٍ يتمتع بِحِسٍّ بوليسيّ، وعباراتٍ ممجوجةٍ بالخيال الجامح والعمق، والجنون في بعض الأحيان.

عن الرواية :

“الكتبُ أرواحٌ مسحورةٌ، تخرج شخوصها على شكل أطياف للحياة، كلما أعاد أحدهم فتحها من جديد “.

وبين شوارع برشلونة وأزقّتِها، يحطُّ الكاتب برحال خياله، بأسلوبٍ حالمٍ مملوءٍ بلذاذة الغموض، ولهفة كشفه بعد أن يقع كتابٌ نادر بين يديّ الطفل ” دانيال ” أثناء زيارةٍ خاطفةٍ يقوم بها مع والده إلى أحد أهمّ الأمكنة السّريّة في برشلونة؛ إلى مقبرة الكتب المنسيّة، لتبدأ القصّة، وتبدأ معها براعة الكاتب في دمج حكايتين إحداهما من الماضي؛ غارقةٌ بين سطور الكتاب، ومابين واقع الفتى الصغير “دانيال ” وحياته.

نشهد بعد تلك الحادثة كيف يقوم (زافون) بنسخ الأحداث ولصقها بين الماضي والحاضر، ليكون كاتب الكتاب؛ لقيةُ دانيال الثمينة، وصاحبُ سطوره “خوليان كاراكس” بطل الرواية ونجمها الآفل، هو ذاته دانيال، بروحٍ واحدة، وأجسادٍ مختلفة في عالمين مختلفين لكن بظروفٍ متشابهة.

تتشابك القصص كما يتشابك دغلٌ أمازونيٌّ، وتنسلُّ حكايات الحبّ التي تستحق الخلود. تخرج آهاتٌ ودموعٌ . أفراحٌ وأحزان. خيانة، تضحية، وفاء أصدقاء الطفولة بتمايز يُضفي قدرةً عجائبية على مزج الحقد بالماضي اللعين  مع رغبة حارقة للانتقام وبقلبٍ بارد .

” ثمّةَ سجون أسوأ من الكلمات “.

تطلّ الرواية بعد هذه العبارة البليغة، وكما يحبّ مقدِمها أن يصفها كما تُطلُّ لوحات الفنان الهولنديّ (بروغل), مشتبكةً كأغصان غابةٍ لا تصل الشمس إلى عمق أرضها، لذا لا بدّ لقارئ الرواية أن يحمل معدّاته إلى جانب قنديلٍ للإضاءة ومنجلٍ لتفادي الأغصان المتشابكة مع جرعةٍ وقائيةٍ تحسّباً لأية مضاعفات قد تسبّبها المنعطفات الدرامية لهذه الرواية الساحرة، أضيف إليها جرعات من الأوكسجين وقليلاً من الهواء الطَّلق بين الصفحة والصّفحة .

كرنفالات من السحر والخيال. مهرجانات تحتفي بالغموض الآسر والنزعة الرومانسية. تاريخٌ يتكشّف لشخصيات عفا عليها الزمن. رفع شواهد قبور منسية، وكتب منسية. عناصر شرطة فاسدون. محاولات نصب ونفوس شبقة. اختطاف وتهديد. كل ذلك ينصهر في بوتقة ( زافون) بمقادير متساوية، كما لو كانت القصص سوائل مسكوبة في أوعية مصممةٍ على طريقة الأواني المستطرقة .

عن المترجم:

ما لا يخفى عن القارئ أسلوب المترجم البارع, السوريّ (معاوية عبد المجيد ـ 1985)، وجهوده اللامتناهية في التوصيف والسلاسة التي تجعل القارئ العربي يتماهى مع العبارات والجمل، ويلهث برغبة كشف المستور بين مضامير غارقة في البعد، تنتهي بهِ إلى أمكنة لم يتوقع أن يصل إليها.

كلمة أخيرة:

الجميل في الحكايات الجميلة أن يكتشف القارئ أن لها أجزاء أخرى، وأن الوصمة المصبوغة بالمتعة تتسلسل بعد (ظل الريح) إلى أجزاء ثانية وثالثة ورابعة، فقد قام (زافون ) بإنشاء ما سماه (رباعية مقبرة الكتب المنسية)، فأصدر فيما بعد ظل الريح أجزاءً مختلفة فجاءت لعبة الملاك (2008)، سجين السماء ( 2011)، ومتاهة الأرواح (2016)،لتخرج الأجزاء الأربعة بعد (ظل الريح) بقصص مختلفة ومستقلة عن بعضها إلا أنها متشابهة في البناء وبعض الشخصيات.

استسلامٌ تام ما بين السطور . رواية تجعل القارئ متنبهاً متيقّظاً إلى فضاءاتها المكانية التي وثقت ذاكرة كل شبر من مدينة برشلونة الإسبانية. دهشة حقيقية تغمرنا، وانغماس تام في الرغبة في فرز شخوصها ومذاقاتها.

تُرجمت الرواية لأكثر من عشرين لغة، وبيع منها ملايين النسخ، الأمر الذي أكسبها لقب أهم الأعمال الكلاسيكية المعاصرة، لتصبح فيما بعد رباعية (مقبرة الكتب المنسية) من أفضل الأعمال الأدبية في القرن العشرين.

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن غنوة فضة

غنوة فضة
كاتبة وروائية سورية، مواليد مدينة اللاذقية (1987)، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس من جامعة تشرين السورية، ودبلوم في البرمجة العصبية اللغوية، صدرت لها رواية "قمر موسى" نظرة على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع السوري.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *