الرئيسية » ممحاة » القناع

القناع

لماذا تسبق الألقاب أسماءنا، حين التعريف بأنفسنا؟ لماذا لا نقدم أنفسنا بذاتها وليس بتلك الصفات التي اكتسبناها في سياق حياتنا الاجتماعية (دكتور-مدير-قاضي-وزير)؟ ما الفرق بين الحالتين؟ لقد أبدع اليونانيون قديماً عندما قالوا: إن الشخصية-أي شخصية الإنسان -هي قناع  (persona) أي ليست فقط ألقاب الإنسان ووظائفه الاجتماعية هي ما نقصده بالقناع الاجتماعي الذي يختفي وراءه الإنسان، بل شخصيته بكاملها هي مجموعة مظاهر تخفي ذاته الحقيقية.

يمكننا ملاحظة ذلك في لحظات التعارف بين الرجال والنساء، فحين يتعرف رجل على امرأة بعيداً عن تلك الأقنعة، غالباً ما تحدث شرارة نفسية يشعر كل منهما بأن نفسه في العمق تهتز أو تتفتق عن حياة جديدة، يولد فيها خوف من المستقبل، خوف مما يمكن أن يحدث بعد، أن يجرح أحدهما الآخر، أو الأخطر أن يرفض أحدهما الآخر بذاته. لأنهما في الأساس يقدمان نفسيهما مجردين من كل حماية، كل منهما مكشوف تماماً للآخر من دون دفاعات يمكن أن تخفف من شدة الألم، إذ أن أقل كلمة أو أقل نظرة من دون تلك الأقنعة الاجتماعية (الألقاب والوظائف) يمكن أن تسبب العطب (هل الذات الحقيقية سريعة العطب)؟

ومن جهة أخرى أقل نظرة حنو يمكن أن تصيب ذاتنا الحقيقية تسبب سعادة غامرة إذ حينها يحصل الرجل على الجائزة الكبرى, لأنها أحبته لشخصه هو وليس لأنه مدير أو أمير، فقد اجتاز هذا الرجل الهوة، هوة العدم، وامتلك الشجاعة ليقدم نفسه أعزلً مجرداً في حرب خطرة، حرب التقييم، أي أن يتم تقييم ذاته الحقيقية، من قبل الآخر. كم من ملك أو أمير فاقد لتلك السعادة، سعادة أن ينال المحبة لذاته هو، وليس لصفاته. صفاته التي تغلفه من الخارج، هل كان بمقدوره أن يتجرد عنها؟ ويقدم نفسه عارية، ويواجه خطر الرفض, خطر النبذ, من قبل الآخر. الرفض الذي يقع على ذاته مباشرة يكون مؤلماً جدا بالمقارنة مع حالة الرفض التي تقع على الصفات الخارجية. ربما لذلك يصر الملك أن يتزوج من ملكة كي لا تكون مفتونة بمنصبه، بمعنى قد يوفر التقسيم الطبقي حلا لهذه المعضلة, حلا مقبولا إلى حد ما، وليس نهائيا، لأن المعضلة ما تزال قائمة، والتي تتمثل بالسؤال ماذا عن نفسي الحقيقية التي لا تظهر عبر تلك الصفات؟ فالإنسان قد لا يكون متماهياً مع تلك الصفات. عندما تلتقي الشخوص عارية، بذاتها، يولد الشرار، مما يعني أن تلك الأقنعة قد يكون لها وظيفة، وظيفة منع حدوث الشرار، منع خطر الاحتراق، لكن هنا نسأل لماذا نتوقع الاحتراق بدلا من الدفء، هل المسألة مسألة احتمالات؟ أي هل احتمالات الاحتراق أكثر من احتمالات الدفء؟ هل يضع الناس القناع قصداً، مخافة الألم، ألم الاحتراق، أن يرفض بذاته فمن الأفضل أن يرفض بصفاته كلها أو بعضها على أن يرفض أو ينبذ بذاته. نعم أن لقاء الآخر يحتاج إلى شجاعة من أجل الوجود، شجاعة للقفز فوق هوة العدم، وقد أبدعت اللغة العربية في تسمية هذا النوع من الناس بـ”الجسور” فالجسور هو الرجل الذي أقام جسرا فوق الهوة، بسبب شجاعته. لكن للمشكلة جانب آخر أكثر خطورة، يتمثل في اكتشاف أن علاقة الإنسان بنفسه تمر كذلك عبر تلك الألقاب والمناصب والقشور الخارجية, اذ أن قلة من الناس من تعرف حقيقة نفسها, نفسها في العمق؟ هنا يمكن أن نفهم دهشة وخوف الإنسان البدائي الذي رأى نفسه في المرآة لأول مرة. ولا عجب إذن أن تصبح المرآة رمزا للحقيقة في الفن. إذن تقف توسطات عازلة بين الإنسان والآخر، من جهة، ومن جهة أخرى علاقة الإنسان بذاته، وفي كلتا الحالتين تعزل التوسطات الطرفين عن بعضهما بعضا.هل من الضروري أن يوجد عازل بين الإنسان ونفسه؟

لو لم يوجد عازل بين المرء وذاته لكانت معرفته بنفسه مباشرة وتامة، وما كان من سبب يجعل سقراط يطالب بضرورة أن يعرف الإنسان نفسه. يرى بعض المفكرين الدينيين أن العوازل والأقنعة ضرورية بين الإنسان ونفسه. أما لماذا؟ فيكون الجواب حتى يسعى لمعرفة نفسه الحقيقة، وهنا إذا تم سؤالهم لماذا؟ فإن الإجابة تكون حتى يعرف ربه، كما جاء في الأثر، من عرف نفسه عرف ربه. إذن تصبح رحلة الإنسان في معرفة نفسه ضرورية لتحقيق معرفته لربّه. ويبدو كذلك، عند بعض المفكرين، أن معرفة الإنسان لذاته، قد تكون ذات تأثير سيء مدمر أو إيجابي يدفع نحو الخلق والإبداع. إذ قد يمضي الإنسان فترة طويلة من عمره وهو يسبر أغوار نفسه بغية التعرف عليها في حقيقتها، وما أن يفعل حتى يصاب بالشلل من دهشة ما يمكن أن يعرفه عن حقيقة جبنه أو بخله المتواري في الأعماق، وهو الذي يشتهر بشجاعته وكرمه. أو أن يصل إلى منابع الطاقة في أعماق نفسه لكي يبدأ الإبداع. هل من الضروري أن يوجد القناع أو العازل؟

إن العوازل والأقنعة من إنتاج الإنسان نفسه. لكنها تغدو قيدا عليه, تتحكم به، وتمنعه من الوصول إلى السعادة والفضيلة والجمال، التي كانت تلك الأقنعة وسيلة من أجل الوصول إليها. بكلمات أوضح، هل الاغتراب ضروري؟

يجيب بعض الفلاسفة بالإيجاب، فالأقنعة توضع ليصبح الإنسان أجمل وأقوى وأفضل. أي أن رغبة الإنسان بالتحسن والتطور والتجمّل هي السبب؟

لكن هنا يعترض فلاسفة آخرون بالقول: أليس الإنسان جميلاً بذاته، كما هو من دون عمليات تجميل وأقنعة، فالإنسان يرغب أن يصبح أجمل لأن المجتمع المشوّه فرض عليه تلك الرغبة.

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. وائل سعيد

د. وائل سعيد
حائز على درجة الدكتوراه في الآداب، قسم الفلسفة من جامعة دمشق، وعلى شهادة عليا في الإدارة العامة من المعهد الوطني للإدارة العامة في دمشق، يعمل في جامعة حماه في كلية التربية بصفة مدرس.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *