آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » حكاية البغل الأزرق

حكاية البغل الأزرق

الأرض عطشى من ماء تحبّه حبّة القمح، وسائل أحمر يكرهه بغل جدي، فالمحرّك الآلي كان نقمة عليه حيث حرمه من وجبة الشعير التي كان يتناولها بانتظام، مرت على جوعه أيّام بحرها وبرها ثم نُفي إلى الوادي فصار عرضة لأنواع كثيرة من الذباب، وليس بعيدا عن الجرّار والسيارة الفخمة ظل عاطلا عن العمل يتمرّغ كل حين من غير سبب، ثم وافاه الأجل وصارت عظامه مساكن للجرذان!

– الله يرحمك يا بغلي الأزرق! كنت تصنع غبار الأرض مما تأكل، وأنا أحمل فوقك سنابل الأعوام الجميلة كانت حوافرك تغوص في زبد الأرض، وإذا أردت حكّ كتفك كأنك تود أن تضحك معي، بل تكاد أن تدب فيك غريزة الجنس لتجلو عليك اللعنة فتصير زوجا صالحا لبغلة جارنا! الله يرحمك يا بغلي الأزرق!

جدي وهو يضع يده على عجلة الجرّار المعطل منذ بداية العام الأعجف يكاد يبكي، يلتفت إلى أبي يوصيه:

– إذا متُّ يا ولدي فادفني عند الوادي بجانب بغلي الأزرق الذي ذهب معه الرزق!

أبي من فرط الضحك انحنى فلامست ربطة عنقه الأرض:

– توقّف عن الضحك، وأنفض ما علق بربطة عنقك من تراب ولا تنس هذه الوصية!

مات جدي من أبي آخر طفرة للوجوه السمر وخلف من بعده خلف بلون الغذاء المُعلّب، منهم أبي الذي أكلته المدينة، وامتصت شبابه الحانات وقاعات اللهو، أهدر مال جدي رحمه الله في مجالس العاهرات، أمّي بعيدة كثيرا عن المشهد لأن أباها أعني جدّي غضب عليها، وأشاع بين الناس أنه لم يعد راض عنها عندما تزوّجت من أبي تحت شجرة “الضريوه[1]” في أعماق الجبل المقابل، يُقال أيضا أن المرحوم جدّي من أبي لعنها كذلك الحال لنفس السبب، ثم غاصت هي الأخرى في المدينة وجفّت عظامها الحمّامات الساخنة، جدّي من أمّي رحمه الله قالها لي مرارا قال: رأسُ أمّك بيضة مارجه[2]، لقد كان على حق فقد رأيت أمّي تأكل وتشرب بنهم وتضحك غير آبهة بوفاة جدّي من أبي. أبي في اليوم الأول من العزاء لا يهدأ في مكان، وكل مرّة يقول للحاضرين بنكهة المُقبل على صفقة عظيمة:

– إن وصية أبي هراء كبير، فلا يمكن لرجل مثلي أن يدفن أباه في هذه المقبرة المغبرة، ربما سيحضر أصدقائي ليشهدوا مراسم الدفن، لذلك لابد أن أذهب بجنازته إلى المدينة، فهناك توجد الكثير من المقابر المحترمة!

اجتمع في الضحى أصحاب العمائم البيضاء، وتلك المزخرفة بالخيوط الحريرية الذهبية، وقفوا كأعمدة الخيمة التي لا تثنيها الريح، يضربون أيديهم يسترجعون حكايات جدي ومواقفه:

– إيه قالها ذاك العام المرحوم!

– إيه رحمه الله فقد كان سخيا وكريما!

– إيه هذا هو مكانه، البارحة فقط كنا نجلس معا على هذا المكان!

– كان غيورا وأنوفا رحمه الله!

أبي لم يصبر وأعلن في يوم العزاء أن أرض جدي للبيع! الدّيك حين مطّط عنقه نحو السماء صاح كأنه يرفض مغادر المكان، لا يريد أن يفقد دجاجته الرقطاء التي عاشرها منذ سنين خلت، ولطالما غمرها بجناحيه فأنجبت معه بيضا كثيرا، بيضٌ نسي نكهته أبي الذي فقد سمرة أبيه من فرط حبّه للمدينة، وإدمانه الرقص في أعماق قاعات اللهو والمجون.

الدّيك عاود الصياح وقت الظهر، لكن أبي أظهر اشمئزازه من وقفته الشجاعة أعلى الصخرة المقابلة، وهي نفسها التي كان يقف عليها جدّي ليفحص القادمين، الجماعة تتلذّذ مجلسها فوق التراب الأحمر ولا تنتهي عن شراب والقهوة، الآتون من كل صوب يضربون بأيدهم على جباههم في تأوهات حزينة كلما تذكروا مكان جدي بينهم، ولطالما أمتعهم بالحكايات والمآثر، أما أبي فقد دخل الحجرة الأخرى بحركة بوليسية أفزع بها النساء:

– هذا الدّيك لا يزال يزعجني بصياحه، يصيح حتى وأنا لست بحاجة إلى الاستيقاظ باكرا، ناولوني خنجر “أبو ثلاث نجوم” يجب أن أهدر دم هذا الدّيك كما أهدر نومي هذا الصباح، سأذبحه وأجمع كل الدجاج في مأتم كهذا!

استدار الأولاد حوله في ضحك وضجيج، جدّتي التي لا تزال تحمل تحت أظافرها خضرة الأرض، اندفعت في حشمة ووقار وبصوت خافت:

– يا رجل عيب عليك أبوك لم يوار التراب بعد، جئتك بجاه ربّي ألّا تمس الديك بسوء فهو عزيز علي، إنه يذكرني بأبيك حين كان يبكر مسافرا أو حاملا مجرفته متّجها بها إلى الزرع!

– حسنا سأعفو عنه لكن يا جدّتي احذري من الآن فهذا الدّيك لا يمكن أن نأخذه معنا إلى المدينة.

على ذكر المدينة الأطفال صرخوا صرخة واحدة:

– آ،آ المدينة، المدينة!

قفز أكثرهم صخبا فأسقط بالعصا صورة جدّي، فتطايرت قطع الزجاج وكادت تفقع عين أبي الثائر على الديك!

أصحاب العمائم اصطفوا لصلاة الظهر، تركوا لأبي مكانا فأشار بسدّه، أخبرهم بأنه ليس على وضوء، بعد الصلاة استعجب الجميع أمره، التفتوا إلى بعضهم وكأنهم قد أجمعوا على سؤال واحد:

– كيف حضر دون وضوء في يوم وفاة أبيه!

همس أحدهم للآخر:

– ربما يلزمه ألف اغتسال فالمدينة يا جماعة وعرة جدا!

أحد المعزّيين يُذَكّر المتحدّث بأن الموقف غير لائق لمثل هذا الكلام ثم رفع رأسه:

– إيه.. كل من عليها فان.

صمتُ الجماعة جعل بكاء النسوة يتعالى متسلّلا إلى جناح الرجال، لهذا السّبب أكثر الحاضرون السعال والنحنحة، أمّا أنا فقد انشغلت بجمع الفناجين الفارغة وإعادة ترتيب الأحذية الكثيرة. يبدو أن أبي لا يتوفر على حكمة كافية للسيطرة على المناسبة، فهو لا يعرف إلا عبارة يظلّ يردّدها من حين إلى آخر:

– يا جماعة إن الأرض للبيع، الحاضر يبلغ الغائب.

ردّ بإصرار على من همس إليه بأن الوقت غير مناسب:

– أكيد لن تتكرّر هذه الفرصة ليأخذ الإعلان نصيبا أوفر من الانتشار، فالعشائر والأعيان والجيران كلهم هنا.

يعيد و يكرر:

– يا جماعة الأرض للبيع!

فهِمتُ الإشارة التي أبدتها جدّتي من خلف الرداء، فقمتُ وبسطت الأفرشة البلاستيكية، وأشرت إلى الحاضرين بأن يشكلوا حولها مجموعات خمسة، خمسة.

جاءت قصاع الطعام من كل البيوت المجاورة فشمّروا على سواعدهم وانكبوا يأكلون من غير التفات. أقبل ثلاثة من العموم أحدُهم قال لأبي:

– لقد أنهينا حفر القبر ودعونا الإمام وإنه قادم على حماره إلى هنا.

ولأنهم كانوا غائبين عن المجلس أخبرهم بأن الأرض للبيع، أما أنا فقد طلبت منهم أن يأخذوا أمكنتهم ليأكلوا و يشربوا ممّا حضر من طعام، أبي يفضل الوقوف لأنه لا يحسن جلسة رجال البادية، حتى لباسه لا يصلح إلا للجلوس في المقاهي والمطاعم، لكن هذه المرّة تظاهر بأنه حزين وشهيته مسدودة، هذا ما اعتقدته أنا أيضا قبل أن يتسلل ناحية جناح النساء، ثم يطلب من جدّتي أن تحشو رغيف الخبز بالبيض المطبوخ، فراح يأكل واقفا باشتهاء وينظر إلى النساء غير  مبال بوفاة أبيه! أكل وشرب ثم عاد إلى الجماعة.

التيس يخترق كعادته تقاليد الحشمة ويقتحم المجلس يطارد جدية جميلة يراودها بطريقته، الجماعة منهمكة في الأكل غير آبهة بالموضوع، أمّا أبي فقد راح يجري وراء التيس معتبرا ذلك قلّة حياء، والجماعة تضحك عليه ضربه بخشونة ودفعه دفعة قوية، فخرج التيس على أثر الجدية التي أشفقتْ عليه كثيرا وأصرّت ألّا يكون أبي سببا في حرمانها من الإنجاب لأول مرة، فقد رامتْ رغبة التيس في مكان آخر!

عندما شبع أبي حملقةً في وجوه النساء وصدورهن ومؤخراتهن عاد حيث كان واقفا في جناح الرجال، رنّ المحمول في جيبه فجأة، فرد على المتصلة بمثل ما حدث بين التيس والجدية فبدا المشهد أكثر إثارة، لأن الحاضرين صمتوا منبهرين بهذا الجهاز السحري الصغير وممّا كان يدور من حوار بينه وبين عشيقته، حتى هو استغل بساطتهم فراح يبالغ في الغدو والرواح وفي التعبير بحركاته وصوته، ومنتشيا بالمكالمة نسي المناسبة وراح يقهقه بين المعزيّين!

الحمار القادم فوقه الإمام لا أحد أدري لماذا نهّق مع أنها لا توجد في المكان أيّ حِماره! أبي انزعج مجدّدا ممّا أثاره الحمار من صوت وأشياء أخرى، فاتكأ مندهشا على الحائط. الحاضرون وقفوا وقفة واحدة، ثم ذهبوا صوب الحمار لاستقبال الإمام، بعضهم ضحكوا باحتشام وآخرون استعاذوا بالله ومسحوا على وجوههم من فرط الحياء.

– إنكم تستعيذون بالله كما لو أنه طل عليكم شيطان!

– لا نقصدك أنت يا سيدنا.

– كان عليكم أن تنظروا وتنصتوا إليّ أنا وتتركوا الحمار وشأنه فهو يحترم ذكرياته كثيرا، وليس كصاحب البذلة وربطة العنق، كنت كلما فككتُ وثاقه أتى جريا إلى هنا،  فقد كان صديقا للفرص البيضاء التي باعها ذاك “المكرفط”.

أشار إلي أبي وواصل حديثه:

– أنجب حماري مع الفرص البيضاء ثلاث بغال كان آخرهم البغل الأزرق الذي حزن عليه الهالك حزنا عظيما قبل أن يتوفّاه الأجل. اللعنة على هذه الجرّارات فقد ملأت الدنيا دخانا وضجيجا، وأبعدت الدّواب عن العمل وأقعدت الشيوخ والأولاد، هذا كان لا يمسه إلا الصالحون.

وأشار إلى المحراث الخشبي الذي كان عرضة لعبث الأطفال!

أبي كالشّاة القاسية منفصل عن الجميع لا تشغله شيء سوى بذلته الأنيقة، بعض من أترابه القدامى الذين لا يزالون رعاة منزوون تحت شجرة البلوط، لم يستطيعوا إخفاء جزعهم قالوا في مناقشة خافتة بينهم:

– إلى متى نظل نلهث وراء أغنام آبائنا، نلف أجسادنا النحيلة بهذه الأثواب المتسخة الممزقة، ولا نعرف شيئا عن المدينة؟

فجأة نادى مناد من حاشية الإمام:

– يا جماعة صلاة الجنازة رحمكم الله.

تيمّموا جميعا ووقفوا عند جثمان جدّي، أبي جاء يضع المنشفة حول عنقه يؤكد للجميع أنه متوضئ، شعر الإمام بحرج كبير وآثره ليؤم الجماعة بدله، دخل أبي صلاة الجنازة بتكبيرة إحرام خجولة، سرَّ بالقراءة ثم ركع! راح الإمام يسبّح خلفه:

وقبل أن يهوي للسجود لقِف الإمامُ أبي من قَفاه، الحاضرون منهم من فاته الضحك، وبعضهم استغرب ما يحدث! الإمام صرخ في وجه أبي:

– تقرأ بالعمى!

أبي أخطأ فلماذا تقدّم للصلاة بالجماعة وهو يجهل كيف تؤدّى صلاة الجنازة، ثم لماذا لم يوفّر الماء منذ البداية، وبدلا من أن يعتذر واجه الإمام بسؤال أسخف:

– كيف أتيت لتصلّي على أبي دون وضوء أيّها الإمام؟

طأطأ الإمام رأسه وشعر بالحرج، ثم أخذ يشرح الموقف:

– اللعنة على هذا الحمار فقد عثر بي فدفعني إلى الشك في وضوئي، لكنني طلبت الماء فقيل لي أنه غير متوفّر، قيل أيضا بأن البغل الأزرق مات والجرّار معطل منذ أيام. على أية حال سنصلي تيمما ونسارع بالدفن إكراما للميت!

أبي في ثورة عارمة:

– أنا لا أسمح بأن تُؤدّى الصلاة على أبي بالتيمم! سآخذه إلى مسجد المدينة لتُقام عليه الصلاة هناك، ثم أدفنه في مقبرة فاخرة!

أربعة من الجماعة انتشلوا جثمان جدّي واتجهوا به إلى الداخل حين داهمته الشمس، تنصل أبي من الجماعة وأخرج هاتفه المحمول، تحدّت مدة دقيقتين ثم رجع صوب الجماعة:

– لقد انتهى المشكل بإمكانكم أن تنصرفوا جميعا!

النسوة عدن مجدّدا وتجمعن حول جدّي في عويل ونحيب، أمّا الإمام فقد ركب حماره ومضى، ومن مسافة غير بعيدة التفتَ إلى الجماعة في حرج كبير:

– سأسعى ربما أجد الماء هنا أو هناك.

الحمار نهّق من أعماق قلبه لأنه لم يتمكن من رؤية الفرص البيضاء، هرول من غير التفات كأنه شعر بأنه لن يعود إلى هذا المكان مرة أخرى، فجأة سمع الجميع صوت سيارة الإسعاف فانصروا جميعا إلى شؤونهم، واصل الإمام لم يجد داعيا للبحث عن الماء وواصل سيره إلى بيته، حملتْ سيارة الإسعاف جثمان جدّي وانطلقت بسرعة، أما أنا فقد بقيت مع جدّتي وبعض المعارف، الديك عاود الصعود أعلى الصخرة ليعلن صلاة العصر، أو كأنه قد أعلن بداية موسم آخر، انتشلتُ صورة جدي وقبلتُها، ثم مسحت المحراث بكم قميصي ولحقت بالإمام، قبّلت رأسه ووعدته بشراء فرص بيضاء بدل التي باعها أبي، فنظر إلي مبتسما ومسح على رأسي!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) تصغير شجرة الضرو وقد سًميت المنطقة الريفية باسمها.
[2] ) كلمة فصيحة متداولة على ألسنة العامة ومعناها فاسدة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن عبد الباقي قربوعة

عبد الباقي قربوعة
كاتب وأديب جزائري، حاصل على دبلوم في قانون الأعمال. نشأ محبا للأدب والكتابة، وأصدر عدة كتب بين القصة القصيرة، والرواية، والبحث العلمي. يكتب في عدة صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عربية، صدر له: “مضغة النار” رواية 2007، “زغب الخوخ” رواية 2007، “دفء معطفها” رواية 2016، “احتراق الألوان” (مجموعة قصصية)، “التربية مفهوم وعمل” (بحث في مجال التربية والتعليم). حائز على الجائزة الثانية للطبعة الثانية خلال الملتقى الوطني الجزائري “الأدبي والفني”، والجائزة الأولى خلال الطبعة الخامسة لملتقى الوطني الجزائري “الأدبي والفني”، الجائزة الثانية للمسابقة الوطنية الجزائرية للعلامة أحمد نويوات بالبرج.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *