آخر المقالات
الرئيسية » يوميات رصاص » وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (5)

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (5)

5 ـ تونس..

المدينة التي تستيقظ قبل بزوغ الفجر وتموت في السابعة مساء إلا قليل. مدينة الطقس المتقلّب كفصول أربعة في يوم واحد، باردة صباحاً، مشمسة وحارة في الظهيرة، تسودّ السماء وتغيّم فجأة فتهطل خيوط مطر يتحول بدقائق لسيول وطوفان نوح، تهب ريح تقتلع الشجر لتُبعد الغيم فتسطع الشمس مجدداً وتجف الشوارع في لحظات. هكذا هي تونس شتاء، أما في الصيف فلا جديد سوى الشمس، تتسرب أشعتها عبر ثقب الأوزون فتحوّل الأرض إلى جحيم حارق، كبروفة على وجهة سفرنا في الآخرة.

بيني وبين تونس ألفة، أشتاقها، فقد سكنتها لشهور ولا أتحدث عنها هنا من وجهة نظر سائح زارها لأيام.

أحب عمارتها الشاهدة على تاريخ الاستعمار، وتنوع تصميمها العمراني بحسب جنسية المستعمر. كل بناء فيها تحفة متحفية مستقلة بزخارفه وأسُوده ووجوه الآلهة الحيادية التي حفظت عيونها صور وجوه أجيال من المارة في الشوارع التي تطل عليها يومياً، فتعرف خفايا الليل وأحداث النهار. أبنية جميلة آيلة للانهيار متروكة دون ترميم، تظهر تحت طلائها المقشور قطع الطوب الأحمر الذي بنيت منه، تتهاوى شرفاتها على المارة أحياناً، وتسقط وجوه آلهتها على الرصيف وكأنها تعبت من الحياة وما عادت راغبة بالنظر.

تونس بنتٌ ساحلية كالإسكندرية تلاعب الريح المالحة شعرها وطلاء أبنيتها، لكنها لا تطل على البحر، وعليك حين تشتاقه أن تذهب إليه، فلن تلمحه صدفة مهما حاولت، وكذلك “بو قرنين” على الجهة المقابلة للمدينة، عليك أن تسمو.. لتراه.

ملونة بالأبيض والأزرق، لون الغيم والبحر، تذكرك بهما كي لا تنسى مكانك في قلبها.

غيمها كالسِحر، لا سماء في العالم لها مثله، يلقي تعاويذ سحره عليك فتُذهل كيف علّقه الله  بخيوط مخفية مثبّتة في بيته حيث يسكن في السماء السابعة وأنزله فوق تونس.

أسوار وأبواب مدينتها العتيقة لم يبنها اليونان والرومان كما دمشق والإسكندرية، لذا فتخطيط المدينة لا يشابه تخطيط المدن اليونانية والرومانية من حيث أسلوب المسقط الشطرنجي تتقاطع فيه الطرق طولاً وعرضاً في زوايا قائمة وتتواجد فيه المساحات بشكل منتظم عند تقاطعات الطرق الرئيسية.

أكثر من عشرين باباً لم يبق منها سوى خمسة، باب البحر الذي سمي كذلك لأنه يُفتح باتجاه البحر أو بحيرة تونس، باب الجديد، باب العسل، باب الخضرا، وباب سعدون المهيب ذو الفتحات الثلاث.

أما أبواب بيوت المدينة القديمة فتتلون بألوان نارية وتزخرفها مسامير معدنية مدقوقة في خشبها. تتفرع حاراتها الضيقة كشرايين الجسد لتقودك من مكان لمكان تظنه متاهة بادئ الأمر لكن ما أن تألفه حتى تتحرك بوصلته الجغرافية داخلك، فتسير نحو وجهتك خفيفاً وكأنك تطفو دون قلق من أن تضل الطريق.

زرت جامع الزيتونة مرة لم أكررها، ليس لأنني لم أحب عمارته أو طقس زيارته، بل بسبب الوقت. زرته حينها بطلب من الحجة أم حسين قبل أن يتوفاها الله، فقد كان لها معه ذكرى جميلة حين زارت أخاها رضوان في تونس التي خرج إليها مع من خرج من الفصائل الفلسطينية من بيروت مع ياسر عرفات عام 1982.

أعرف تونس ما قبل الثورة وما بعدها، وأذكر جيداً انطباعي عنها حين تعرفت إليها أول مرة. 

لفتتني الملابس حينها، رمادي وأسود وبني، وكأن الجميع في “يونيفورم” واحد ميز كتلة البلدان الاشتراكية سابقاً، قبل سقوطها. وجوه حيادية دون لون، خاصة الصبايا، غالباً دون مكياج، ونادراً ما تلاحظ استثناء ملوناً عن هذه القاعدة.

لون الملابس تغير بعد الثورة، فصرت أصادف الألوان الزاهية أكثر، الوجوه مضيئة، فساتين خفيفة مفتوحة بمقابل نسوة يرتدين النقاب ورجال في سراويل قصيرة ولباس أفغاني وشوارب محفوفة. لم استنكر هذه الظاهرة على خلاف أصدقائي التوانسة فقد كانت جديدة عليهم، أما نحن فاعتدناها في دمشق المكتظة بقبيسياتها ومدارسها الدينية منذ عقود.

يقطع الـ “ميترو” الأخضر الجميل شارع الحبيب بورقيبة آتياً من شارع روما، لاوياً خاصرته عند تمثال ابن خلدون ماراً قرب السفارة الفرنسية إلى محطته النهائية في “برشلونة”، ملصق الدعايات يلون عرباته بالأحمر ويكاد يخفي لونه الأصلي.

ماذا لو لم يجتثوا عام 1962 سكة الترمواي من طرقات دمشق المبلطة بالحجر البازلتي؟

ماذا لو لم يتوقف القطار البخاري المنطلق من محطة الحجاز قاطعاً ساحة الجمارك حيث سكته مدفونة في الإسفلت حتى الآن، متجهاً من الربوة ودمر نحو الزبداني؟

كيف لأصبحت دمشق في ذاكرتنا يا ترى؟

*****

لكل مدينة طقوس قهوتها، ولتونسَ “الألونجيه” و”الديريكت” اللتان لا أحب شربهما لأنهما مخلوطتان بالحليب. الحقيقة لا أميز بين الواحدة والأخرى، رغم الجهود التي بذلها أصدقائي ليشرحوا لي الفرق، فهمت فقط أن واحدة كأسها أطول من الأخرى لكن المكون هو واحد، لكن أيها؟ لغز يحيّرني حتى الآن، فأنا لا أعرف إلا القليل من الكلمات الفرنسية رغم ما بذلته لتعلّم هذه اللغة ذات القواعد المعقدة والأفعال الشاذة التي تشكل معظم أفعال اللغة الفرنسية وتحتاج إلى حفظ. لم أفهم ما الذي دفع الفرنسيين لاختراع كلمات مكونة من عشرة أحرف طالما سيتم “قرط” الحروف الخمسة الأخيرة حين التلفظ بها، ولم أستطع أيضاً الإحساس بفارق اللفظ بين الأحرف الصوتية. ما علينا من اللغة، لنعد إلى القهوة.

هناك أيضاً “الاسبريسو”، الذي ثبّت على مر السنوات قناعة راسخة لديّ بأن القهوة في تونس مجرّد عيّنات في قعر الفنجان لا تسدّ حاجتي من الكافيين الصباحي. أطلبه مضاعفاً مرتين، ثم أطلب واحداً آخر مضاعفاً أيضاً.

لسنوات، وكلما زرت تونس رفضت شرب “الأميريكان”، فهي مرتبطة في ذاكرتي بتلك القهوة الماصلة التي أعرفها من دمشق وبيروت، لا طعم لها، لا لون، ولا رائحة، ميزتها الوحيدة أنها تُقدّم في كأس أو فنجان كبير جداً. لكن في آخر زيارة قلبت هذه “الأميريكان” المعدّلة جينياً موازين قناعاتي بكون القهوة التونسية مجرّد عيّنة، وأجبرتني على احترامها.

أحب أيضاً القهوة العربي التي تصنعها لي سميرة فتضيف إليها بمحبتها قطرات من ماء الزهر، نجلس في مطبخها الصغير في اللافاييت، أدخن وأشرب قهوتي بينما تحضّر الفطور* وننتظر حضور قيسالة المشغولة على الدوام. تطلب سميرة أن انتقل من الفندق إلى بيتها كي لا أبقى وحدي، فصديقتي إكرام التي أنزل في ضيافتها عادة ليست في تونس هذه المرة.

-منحبّش تقعد وحدك.. إيجا بحذاي..

أخجل، فتصرّ، حتى أن قيسالة تقترح أن تأتي لتساعدني في نقل حقيبتي إلى بيت سميرة.

وفي الفندق، أودّع القطة السوداء الهزيلة، تتمسّح بقدميّ بينما يُسمع مواء صغيرها عالياً من الطابق الثاني.

في أول يوم في الفندق تشممتني وجلست قربي، ثم قفزت إلى حضني ونامت.

سألت خولة التي تعمل في الاستقبال عنها وعن الصغير الذي يموء في الطابق العلوي ويشبهها كقطرة ماء فأخبرتني بأنه ابنها. استغربت، لم ارها يوماً ترضعه أو تبقيه قربها، فشرحت لي خولة أن أمه ولدته وهي مجرد طفلة أيضاً، أثداؤها صغيرة لا تستطيع إرضاعه، لذا يتناوب على إطعامه كل من يعمل في الفندق.

أخرج إلى الشارع مع حقيبة سفري، أكاد لا ألاحظ مخفر الشرطة الذي بات في الصباح هادئاً غير مرئياً، على خلاف الضجيج والصراخ يحمله الليل، فأتساءل وأنا أنهض من سريري في الفندق لأطل عليه من الشرفة، ما سبب المشكلة التي حصلت اليوم وتستدعي كل هذا الصراخ.

*****

سأعترف.. علاقتي مختلّة مع الله لأسباب شخصية.. لكنني ممتنة له على كل الأشخاص الجميلين الذين رسمهم في حياتي، أناس غمروني بفيض من محبة أغرقتني حتى خجلت.

لم استطع توديع الأستاذ عمر قبل السفر، رجل سبعيني تعرفت إليه حين قدمت عرض “هن” في تونس منذ أكثر من عام، أب جميل، رائق وهادئ، يشبه بابا. جلست في المقعد المخصص لي في الطائرة وأنا أنظر إلى المطر عبر النافذة في السابعة صباحاً، صبية نادتني باسمي فاستغربت، أعطتني علبة وقالت أنها أمانة. فتحتها، فوجدت فيها ورقة من الأستاذ عمر يتمنى لي رحلة سعيدة، بكيت وغرقت في خجلي لأنني لم أودعه، فأتى إلى المطار من إحدى ضواحي تونس البعيدة قبل أن تطلع الشمس، ورغم المطر ليوصل علبة الحلو لي.

خالد، قطع الطريق من القيروان لنقضي يوماً معاً نتذكر من نحبهم في سوريا ومن لا نحبهم أيضاً.

*****

ترهقني تونس بإيقاعها اليومي، فنحن الشرقيون غير معتادين عليه، نستيقظ بتكاسل ونمارس أفعالنا اليومية بتكاسل أيضاً، أما هنا فتضطر أن تساير إيقاع البلد لتصبح جزءاً منها وتدرك تماماً ما يعنيه “الأمبوتياج”** و”البراكاج”***.

الوضع الأمني متوتر، لكنني معتادة على الأمر، فبعد جولة الانتخابات الرئاسية الأولى والخيبة التي أعقبت النتائج، وسيل الاتهامات والإدانة لمن قاطع الانتخابات فأوصلت قيس سعيد ونبيل القروي إلى القائمة النهائية وكلاهما لم يتم الاتفاق عليهما من قبل من أعرفهم من أصدقاء، يبدو حزبي الرحمة والنهضة في أحسن حال وقد نصبا خيمهما الانتخابية وسط “شارع فرنسا” منادين بمكبرات الصوت عن برامجهما الانتخابية. جلست قليلاً في ساحة باب البحر أدخن سيجارتي واستمع إلى الخطبة التي يلقيها مرشح حزب الرحمة بمكبر صوت مسجلة على شريط. أحسست وكأنني عالقة وسط خطبة الجمعة فانسللت باتجاه “المنجي سليم” إلى “الحفصية” لأضيع في شوارعها.

تذكرني الحفصية بسوق الحميدية في دمشق، الأزقة ذاتها وكذلك المعروضات وطريقة البيع.

-بدينار يا مرا.. القطعة بدينار..

يصرخ البائع عبر مكبر الصوت فأتذكر أسواق عمان ودمشق.

كم تشبه المدن نيجاتيف الأبيض والأسود للصورة ذاتها قبل التحميض، بالنسبة لي الأصل هي صورة دمشق في ذاكرتي، أما المدن فهي نيجاتيف صورة حيّ يحمل في أجزاء ثانية طعم الصباح والقهوة والروائح من دمشق، فأنسى مكاني الجغرافي للحظات وأتشوش.

أتت نتيجة الانتخابات التشريعية بخيبة أكبر لضعف الإقبال وتفوّق النهضة وتفرعاتها من أحزاب على نسب الأحزاب البرلمانية الأخرى.

خيبة تذوّقتها مع جميع من أحب، سرت في جسدي رعشة، وأحسست كأن وطني نفسه قد خذلني، خذلتنا أوطاننا.

أشرد من نافذة سيارة التكسي، أطبع في ذاكرتي صور المباني الجميلة في “شارع الحرية”، سائق التكسي لا يكف عن الحديث عن الوضع السوري وقد التقط لهجتي، يسألني عن “باب الحارة” وما معنى “كسر الصفرة” فأشرح له ثم.. يباغتني بسؤال:

– ألم يكن من الأفضل لو تنحّى كما فعل مبارك وبن علي؟

فأصمت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الغداء في التونسية الدارجة.
** الأمبوتياج: الازدحام المروري.
*** البراكاج: السطو والسرقة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *