تبادلنا إطلاق النار عدّة مرات! مرّتْ فوق رأسي خمس رصاصاتٍ على الأقل، كادت إحداها تقتلع أذني من مكانها وأخرى كادت تخترق جبيني من فوق محجر العين ببضعة ميليمترات. بتدبيرٍ ما، حادتْ الرصاصات الخمس الأكثر خطورةً عن هدفها، واطمأنَّ قلبي لسماع أزيزها، فأزيز الرصاصة أشدُّ الأدلَّة صدقاً على مرورها فوقكَ دون اختراقكَ!
كنتُ أفكّر من أين سأحضر الطعام بعد المعركة لعائلتي، وكيف سأخيط دبدوب ابنتي فرح التي أحزنها نقص حشوته أكثر من انهيار السقوف واندلاع الحرائق! كيف سأنهي هذه المعركة قاتلاً غير قتيل! لأنْعَمَ برؤية أمّي العجوز مرةً أخرى هي دائماً مرشحة لتكون الأخيرة! فأنال منها ما يكفي من الصلابة للصمود أكثر… معركةً أخرى على الأقل.
الرصاص في جعبتي ثمينٌ لا يجوز لي التفريط به، والرصاص في صندوقه غزيرٌ كثيرٌ وفير، هو لا يعبأ بالتصويب ويستند للاحتمالات التي تصبُّ في مصلحته كلّما داس على الزِّناد أكثر، ينتشي بصوت الرشّاش وارتطام رصاصاته المتتالية بالحَجَرِ وتطاير الغبار، وينتظر ليتأكّد إنْ أصابتْ إحداها هدفاً محتملاً، قبل أنْ يطلقَ خزنةً كاملةً من باب الاحتياط! أمّا أنا… فأحمِّلُ كلَّ رصاصةٍ أملاً أن ينقص الأعداء نفراً، وأتمنى ألّا يسمع هو أزيزها وأنْ تستقر في أيّ جزءٍ من جسده المغطى بسماكة الدروع خلف الدُّشم، في أيّ جزءٍ! علّه إنْ لم يمتْ ينسحب وتنقله مروحيةٌ إلى مستشفى بعيدةٍ عن أرض المعركة، وإذا طارتْ مني رصاصةٌ خانتْ عهدي بها ينشلع قلبي، فقد أضعتُ فرصةً دفع رفاقي ثمنها دماً ولحماً وبكاء، وأقاوم إغراء تحويل وضع البندقية إلى الرشِّ فمثلنا أهل الدِّراك!
يطمئنه صوت الزنّانة ولا يرعبني! وكلُّ ما لا يخيفني يجب أن يخيفه، لكنه أحمقُ مغرور، مدججٌ بالاطمئنان المرصّع بالدروع والنظارات الليلية والمناظير والرادارات والأنظمة الإلكترونية المعقّدة، شبعانٌ مستدفئٌ ومتكئٌ إلى الحديد من أمامه ومن خلفه.
كنت أعلم عندما صوّبت إلى رأسه أنَّ الرصاصة لن تخترق خوذته الألمانية التي عبرتْ خلجاناً عربيةً وحملتها إليه أكفٌّ عربية، لكني أردت إخطاره أن لكلِّ رصاصةٍ سأطلقها مستقرٌّ في كيانه، حتى وإن لم تقتلْه ستبلِّلُ ثيابه وتوهن قلبه!
من كان يصدق أن الخوذة الألمانية لن تصمد أمام رصاصة كلاشنكوف معدّلةٍ محلياً! من كان يصدق أن الرصاصة ستصون عهدها فتخطّ جرحاً في رأسه وإن لم يكن خطيراً لكنَّه عميقٌ في اطمئنانه وكبريائه! سمعتُ صوته واضحاً يصرخ ويخبر زملاءه بالعبرية أنَّ الرصاصة اخترقتْ الخوذة! ويطمئنه زميله أنّها بالكاد احتكّتْ بجلدة رأسه ورسمتْ خطّ صلعٍ في شعره القصير، ولم تصلْ عظم جمجمته، جرحٌ طفيفٌ بالنسبة للأطباء، عميقٌ لكلِّ من سواهم!
لا بد أنّه -وقد فقد الاطمئنان الذي وهبته إياه الزنّانة والمناظير والمروحيات والدبابات- فكّر كيف سيعود إلى البيت، هل سيرى أمّه ثانيةً لتمنحه الصلابة التي انهارت مع انهيار قانون الاحتمالات وقد أطلق أكثر من مائة رصاصةٍ إلى هدفٍ يعلمه تماماً لم تصبه واحدة منها! بالتأكيد تذكّر فتاةً أحبّها، غدرتْ به أو غدر بها أو ربّما انفصلا لأنها رأتْ موتاً يحوم فوق جمجمته أو لمحتْ في عينيه خوفاً جعلها تخاف على غدها معه! وزميله أيضاً لا بد أنه تحسّس خوذته الألمانية وشتم الألمان ولعن “سنسفيل” أبوهم!
أغرتني إصابته الطفيفة بإحصاء ما تبقى معي من ذخيرة… تكفي لإرعاب ثلاثة عشر جندياً على الأقل، وإحداث ثلاث عشرة ثغرةً في عنجهية النازيين وعمالة العرب، لكنها غالباً لن تكفي لأعود برغيفٍ إلى أمي أو إبرةٍ وخيطٍ لدبدوب فرح، ترى هل ستكون فرح ممتنّةً لموتي الباسل هذا أكثر من امتنانها لخياطة بطن الدبدوب؟!
ذاك الجرح الطفيف بالنسبة للأطباء العميق بالنسبة لكلِّ من سواهم استفزّ المدفعية، فأطلقتْ خمس قذائف متتالية، أصابتْ كلّ ما حولي ودمّرتْ جدران الغرفة المجاورة التي كانت ربّما غرفة الجلوس واستقبال الضيوف بالنسبة لأصحاب البيت، لكنّها بالنسبة إليّ متراسٌ أطلقتُ منه رصاصةً صنعتْ خطَّ صلعٍ في رأس جنديّ وبلَّلتْ ثيابه! ولم تمضِ ثوان حتى طارت مسّيرةٌ صغيرة تبحث عمّا بقي من جسدي وأشلائي، أو تحاول رصد مخبأي لتحديد وجهة القذائف التالية.
نزلتُ بهدوءٍ إلى الطابق السفلي، وعدوتُ بخفّةٍ وحذرٍ إلى عمارةٍ أخرى غير التي تتفحصها المسيّرة المجرمة، شعرتُ بألمٍ خفيفٍ في فخذي الأيمن وحرارةٍ ولزوجة، ليست الإصابة الأولى ولن تكون الأخيرة إن لم تكن قاتلة، المطلوب مني الآن أن أحافظ على حياتي لأطول فترةٍ ممكنة، فأنا درعُ فرح وزنّانتُها ودباباتها ومناظيرها وطائراتها وكل تكنولوجيا الحماية التي تعوّل عليها، وما زلت أملك ثلاث عشرة رصاصةً مخلصةً، يجب أن أحيا لأموت في الوقت المناسب!
كانت العمارة الثانية أقل تضرراً، على الأقل ما زالت الجدران منتصبةً، وصلتُ إلى المطبخ وبدأتُ أبحث عن أي شيء يساعدني على إيقاف النزيف لاستئناف المعركة، وفي متراسي الأول جلبةٌ وضجيجٌ وبدايةُ احتفالٍ بصمت بندقيتي الذي ينذر بموتي، أغراني مطربان زيتونٍ أصابته شظيةٌ كسّرت رأسه، لكن الزيتون ما زال فيه لامعاً، وبغير بحثٍ أطلَّتْ عليَّ أرغفةُ خبزٍ أيبسها الزمان واشتاقت لفمِ جائعٍ يلوكُها، تناديني بصوت أمي وابنتي ومن حضر من الجيرة، هل أهرب! هل أحاول الانسحاب فأصل إلى البيت حيَاً ومعي زيتونٌ يمكن تنقيته من زجاج بيته، وخبزٌ مشتاقٌ يابس! هل ستكون الفرصةُ غداً سانحةً كما هي اليوم لاصطياد جنديًٍ أو جرحه أو عطب اطمئنانه! هل الانسحاب خيانةٌ وما زالت في جعبتي ثلاث عشرة رصاصةً!
لم تصمدْ حيرتي طويلاً، مقلوبةً رأساً على عقب نادتني علبةٌ معدنيةٌ كانت في أول عهدها علبة بسكوت، لكني أعرف أنها في كلِّ بيت في غزّة وربما في العالم تصبح علبة خيطان وإبر بعد أن يقرمش الأطفال أطفالها، عرجتُ إليها غير عابئ بسيلان دمي لأتأكّد من فرضيتي، ووجدت فيها ضالّتي! خيطانٌ وإبرٌ وكشتبان ومقصٌّ وقطعٌ لترقيع الأقمشة التي أهلكتها شقاوة من يرتديها، رقعةٌ مرسومٌ عليها ساسوكي وأخرى مرسومٌ عليها ميكي ماوس كفيلتان برسم ابتسامةٍ عريضةٍ على وجه فرح!
أعرف تماماً خطواتي القادمة، عين النفق ليست بعيدةً، والجنود منشغلون بالبحث عن أشلائي أو علامات تمزق جسدي على بُعد بنايتين حيث كنتُ، وزنّانتهم لا تخيف إلّا من يخافها! عمّا قليل سيتبعون خيط الدم عندما ينقشع الغبار ويفقدون أمل العثور على بقايا جسدٍ محطّم، سأقطع خيط الدم فلا يصلون إلى النفق ولا منه إلى حيث أنا والأفواه المنتظرة وبطن الدبدوب المفتوحة!
تمنيتُ فقط لو أنّهم يجدون في تلك البناية ما يجعلهم فرحين ومستعدين للرجوع خطوةً للوراء، أن يجدوا ما يغلبهم هناك ويعيد لهم ولو لحظةً من الآدمية تجعل الحياة أجدر بالاهتمام من الموت! هذا مستحيل، لكنهم على الأقل قد أدركوا أن الخوذة لن تحميهم ما دام فينا من يسدّد على الخوذة آملاً اختراقها ولو خدشاً حتى وإن صنعها صانعو المرسيدس أنفسهم!
أما أنا! فقد عدتُ فجر اليوم التالي، وقد استقرّتْ حبّات الزيتون في بطون أهلها، ووجد الخبز ما يطفئ وجده، وخاطتْ أمي لفرح دبدوبها ورقعتْ شقوقَ ثوب بنتٍ لا نعرف أهلها أهدتها فرح الرُّقع، ثم قبّلتني على جبيني وأعطتني من الصلابة ما يكفي لإطلاق آخر ثلاث عشرة رصاصةً كلٌّ منها في محلّها، ثم تحولتُ إلى لحمٍ ممزّقٍ تطاير على الحيطان في بيت أصحاب علبة الخياطة، فأفسد الطلاء وغيّر للأبد معالم المكان!
تم ارتكاب هذه القصة لأول مرة في الإسكندرية – نوفمبر 2024
مجلة قلم رصاص الثقافية