أحياناً لا نختار أن نعود، لكن الذاكرة تفعل. تمسكنا من أطراف أرواحنا، وتشدنا نحو الأمس، كأنها تحاول أن تنتشلنا من هشاشة الحاضر. وهكذا فعلت بي كلمات وسام الخطيب. لم تكن مجرد كلمات، بل مفاتيح سرية لبوابة قديمة من وجعي، من عمري، من ذلك الضوء الذي عشناه، وظننا أنه سيبقى .
عدت إلى هناك. إلى صفحة “أدب الشباب” في جريدة تشرين. إلى ذلك الركن الهادئ من الصحافة السورية، حيث كنا نحلم بأن القصيدة قادرة على تغيير العالم، أو على الأقل قادرة على تغييرنا نحن. كنا نكتب بأصابع مرتجفة، نطبع أحلامنا على الورق، ونرسلها بالبريد، ننتظر أسابيع لنراها مطبوعة، وكأنها إعلان سري لوجودنا في هذا العالم المزدحم بالضجيج والنسيان.
تحت إشراف الشاعر الراحل أحمد تيناوي، كتبنا أول نصوصنا. كان الحرف نافذتنا على الضوء، على الحلم، على احتمال الحياة. حينها لم يكن لدينا الكثير، فقط القصائد، والصبر، وبعض الأمل ..
هاجرتُ إلى سويسرا مع بدايات الحرب. لم تكن الهجرة حلماً، بل كانت نجاة. نجاة من موت يتكاثر في الأزقة، في البيوت، في النظرات. كنت أمشي في شوارع غريبة، أتعلم لغة لا تشبه لغتي، وأجمع نفسي من جديد، قطعةً تلو الأخرى. الحياة لم تمنحنا وقتاً للحزن، فقط للنجاة.
وذات مساء، بينما أتصفح الإنترنت، وجدت بالصدفة مقالاً يستعيد صفحة “أدب الشباب” وتلك الأيام البعيدة. شعرت وكأن أحدهم أضاء فجأة غرفة مغلقة في داخلي. غرفة عشت فيها مع أصوات أصدقائي، وضحكاتهم، وأحلامهم، وظلال الذين رحلوا قبل أن يتمّوا جملتهم الشعرية. كم تشبهنا تلك الغرفة، وكم نفتقدها.
أتذكر “أرين”…
الفتاة التي كانت القصيدة تسبقها إلى الأماكن، وتلبس اسمها كما تلبس النساء ثوباً من حرير. أحببتها وأنا في المرحلة الثانوية. كنت أكتب لها، أخبئ اسمها بين السطور، وأبعث لها قصائدي من دون توقيع. لم تقل شيئاً، لكنها كانت تعرف. كانت القصيدة طريقاً للبوح، حين كانت الحياة صامتة. أخذتها الحياة إلى طريق آخر. تزوجت أحد أقربائها، وهاجرت إلى دبي، ثم إلى ألمانيا، حيث قرأت مؤخراً خبر وفاتها بعد صراع طويل مع السرطان. كانت أماً لطفلين، ورحلت بصمت، كما ترحل الأغنيات.
سألت نفسي: كيف يمكن لفتاة مثل أرين أن تموت فجأة؟ دون وداع، دون قصيدة أخيرة، دون أن أراها مرةً واحدةً فقط؟ لمن أكتب إذن؟ وإن كتبت، كيف أرسل القصيدة إلى القامشلي، إلى بيتها في “تل شعير”؟
يا وسام، ها أنا أمشي وحيداً في طرقات جبال الألب، كأنما على ظهري ظلال ثقيلة. وكأنما هذه الرحلة تقودني إليها، إلى عينيها اللتين كانتا تكتبان الشعر، وإلى كحلها الذي علّق قلبي ذات مراهقة.
مفارقات الحياة السورية لا تنتهي. الحرب لم تكتف بتمزيق الجغرافيا، بل مزقت الذاكرة أيضاً. بعثرتنا في المنافي، وتركتنا نبحث عن أنفسنا في القصاصات القديمة. كل واحد منا صار مثل صفحة ممزقة من دفتر مدرسة قديم. نحاول أن نعيد ترتيب أسمائنا، ضحكاتنا، قصائدنا الأولى، دون جدوى.
أين هم أولئك الذين كتبوا معنا؟ هل ما زال “وجدي الشمالي” يكتب من السلمية؟ هل ما زال “باسم سليمان” يخط حروفه الحادة على الورق؟ هل ما زالت “بشرى البشوات” تسمع صدى شعرها في مدن بعيدة؟ لا أعلم. لكني أعلم أن أحمد تيناوي صنع لنا وطناً صغيراً من الكلمات. وطنًا من ورق، لكننا عشنا فيه بأمان. كتب لنا قصائد مثل زجاج النوافذ، يرى الداخل والخارج دون أن يكسر أحد. كنا ننام فيه على مهل، ونحلم بوضوح، إلى أن داهمنا المنفى، وأيقظنا على برد الحقيقة.
أيها الراحل يا تيناوي…
كنت تكتب عن الحب، والورد، وعن الحزن النبيل. أما نحن، فصرنا نكتب عنك، وعن أنفسنا التي تهشّمت في الطريق. وكما قلتَ ذات قصيدة:
“أعطني قليلاً من الوقت / فربما لم يغلق بائع الورد / هو يعدني منذ خمسة وعشرين عاماً / أن تكون الوردة آخر هزائمي…”
نعم، كانت الوردة آخر هزائمنا.
وها أنا أكتب اليوم، لا لأرثي أحداً، بل لأشهد أننا كنا هناك. نحن الذين كتبنا في “أدب الشباب”، نحن الذين حلمنا، وصدقنا أن القصيدة يمكن أن تمنحنا وطناً، أو صديقاً، أو حباً، أو حتى نجاة مؤقتة.
وسلاماً يا وسام…
ها أنا أكتب إليك من ضباب سويسرا، أخبرك أنني ما زلت أكتب. أعمل منذ سنوات على رواية طويلة. هي ليست سيرة ذاتية تماماً، لكنها تشبهني كثيراً. أكتبها كل مساء، أعيد ترتيب فصولها، أنقّح حروفها، وأراقب ملامحي تتبدل مع كل فصل. لا أدري متى ستنتهي، ربما حين أعود، وربما حين يتوقف الحنين.
الشيب يغزو رأسي. في كل صباح أحصي الشعرات السوداء التي نجت من الزمان، كأنني أحصي خيباتي. لكنني ما زلت أكتب، وأشعر أن الكتابة وحدها تبقينا على قيد الحياة، أو على قيد الذاكرة، في الأقل.
نعم، كنا هناك.
نحن الذين زرعنا الورد في زمن البارود.
سلاماً
مجلة قلم رصاص الثقافية