نزح أهل ترشيحا عن بلدهم فلسطين، وكان قد أعلن عن قيام دولة إسرائيل في 15 أيار 1948 لكنَّ قرية ترشيحا ظلَّت تقاوم حتى 28 ت 1 عام 1948 أي بعد ستة أشهر، تقع على سفح جبل المجاهد، في الجليل الأعلى، وتبعد عن لبنان 20 كم، وعن صفد 20 كم، وهي من قضاء عكا، تعلو عن البحر 520 متراَ، وأراضيها كانت مرصوفة بالحجر الأصفر، كانت تتمتع بقسط من التعليم لا بأس به، وهو ما يميزها عن غيرها من القرى الفلسطينية، وقد سكنها المسلمون والمسيحيون، الكاثوليك والأرثوذكس، وجاءتها البعثات التبشيرية من القرن التاسع عشر، ونشطت في ربوعها، وأسست المدارس الابتدائية والإعدادية، مما جعل كلَّ الطوائف، بما فيهم المسلمون يدخلون هذه المدارس، ويحصِّلون تعليمهم حتى الصف التاسع ومنها ينتقلون إلى القدس ليكملوا تعليمهم.
تقول أمُّ علي التي كان عمرها 16 سنة في تلك الأثناء، كانوا يرمون علينا من الطائرات (القاظازنات) وهذه التي كانت تستخدم للحمَّام فهي تملأ بالماء وتسخن والناس تغتسل بها، ولكنَّهم كانوا يملؤونها بالمتفجرات ويلقونها علينا من الطائرات، بالإضافة إلى المتفجرات التي يلقونها من المدافع، أهالي ترشيحا اختبؤوا في البيت الذي هو عبارة عن باتون مسلح، لكن الصهاينة قصفوا هذا البيت بالقازانات، عند ذلك جمعنا أنفسنا وانطلقنا إلى الحدود اللبنانية، وهناك جاء الترين/ القطار، وحمل هؤلاء البشر، إلى بيروت وأسكنهم في مخيَّم أعدَّ مسبقاَ، وسمي مخيَّم برج البراجنة، والذين بقوا أخذوهم بالترين/ القطار، إلى حلب، حيث أسكنوهم في مخيم النيرب، الذي كان مكاناَ لإيواء الجنود الفرنسيين.
وترشيحا تشتهر بأنها تزرع الدخان، وهم بارعون في زراعته، وكان رجل ميسور مسيطر على هذه الزراعة، فالفلاحون يقومون بزراعته، وعندما يصبح جاهزاَ للقطف، يقوم هذا الرجل، وبواسطة العمال، بتصنيفه وترتيبه وجمعه، وعندما يصبح لديه كمية كبيرة، يرحِّلها إلى إنكلترا، والدخان كان ممنوعاَ، والجيش الإنكليزي عندما يجده عند أحد فإنَّه يعاقبه، والذين جاؤوا إلى مخيم النيرب كانوا يستأجرون أراضي في الباسوطة وهي من قرى الأكراد ويقومون بزراعة الدخان فيها، بالإضافة إلى الزيتون الجيد المعروف بزيتون ترشيحا الذي لا يضاهى، كما أنهم يزرعون الخضار بالإضافة إلى القمح للاستهلاك المحلي.
لقد بقي بعض التراشحة هناك، وهؤلاء اختبأوا في القرى المجاورة، عادوا إلى بيوتهم التي تركوها في ترشيحا، بعضهم فقد ابناَ وبعضهم فقد أسرة والبعض الآخر فقد أخاَ، ومن هؤلاء إبراهيم الذي ضيع أخاه، وقالوا له: إنَّه ذهب إلى سورية، وظلَّ يدور عليه حتى عرف أنَّه في مخيم النيرب، في حلب، وغابت الأيام والشهور والسنين، حتى عرف أنَّ الدكتور عزمي بشارة قد أعدَّ قائمة بالذين يريدون الذهاب إلى سورية عام 2000 فطار عقله، ولم يعد يستطيع النوم، ذهب إليه في الناصرة، وترجاه أن يدرج اسمه بين الأسماء، لأنَّه يريد أن يرى أخاه فقد صار له أكثر من خمسين سنة لم يره فيها، وأدرج اسمه، وجمع إبراهيم نفسه ووُضِعَ في القائمة، التي أصبحت تسعاَ وعشرين حاجاَ يريدون رؤية أقاربهم.
عند الحدود مع الأردن لم يسمحوا لإبراهيم بالعبور، لأنَّ عليه ضرائب للمالية، فخبَّر ابنه بأن يدفعها له في البنك، ويبلِّغه بشأنها، فدفعها وتلفن له بأنَّ مشكلته مع الضرائب انتهت، فلحق القوم إلى الأردن ووجدهم في الفندق حيث يقيمون، وكان اسمه فندق “قصر الصنوبرة” التأم الشمل وانتهت الضيافات وانطلقوا إلى سورية بباصات ” جيت”، لم يدخلوا بجوازات سفر إسرائيلية، وإنما دخلوا بالورقة التي عليها ختم عزمي بشارة، وكان ثلاثة من أولاد مصطفى ينتظرون القافلة التي تأخرت بسبب إجراءات الحدود، وأخيراَ وصلت القافلة، إلى ساحة الكرنك، خلف ثانوية جودت الهاشمي، ونزلوا من الباص، الكلُ يقبل بعضه ومن خلال الدموع ترى النكبة مرسومة على الوجوه، أولاد مصطفى كانوا لا يعرفون عمَّهم، لأنه تزوَّج بعد النكبة، فهم لم يروه إطلاقاَ وجاؤوا إلى دمشق لانتظاره من دون معرفة مسبقة، فأبوهم مقعد في الفراش ولا يستطيع السفر، لولا ذلك لكان قدم إلى هنا لاستقبال أخيه الذي لم يره منذ ذلك الزمن، لكنه أرسل أولاده ليجلبوا عمهم إلى المخيم، وإبراهيم يلوب على أحد يدلُّه على أخيه، وكذلك الأولاد، إنَّهم يفتشون بين الناس لعلهم يرونه، كان يفتش بين القوم فيراهم يقبلون بعضهم ويبكون، أمَّا هو فلم يعثر على أحد يقبله، ترى هل خدع؟ ألم يبلغوا بأنَّه قادم إليهم، لقد انتظر كلَّ هذه السنوات ليرى ما الذي حصل لأخيه؟ أين يذهب الآن؟
اقترب منه شاب قائلاَ ألست العم إبراهيم، وانفجر بالبكاء وضمَّ الشاب إليه، أأنت ولد أخي مصطفى؟ وأين أخي إنني لا أراه، وتقدَّم الثاني ثمَّ الثالث، وأخذ يقبِّل الجميع، أين أبوكم، إنَّني لا أراه، كانت الدموع تسيح على خديه وهو لا يعرف كيف ستنتهي هذه المأساة، أنتم أولاده الثلاثة، إنَّكم تشبهونه، أين هو إنَّي لا أراه، الأولاد الثلاثة يبكون أيضاَ، لا يعرف ألم الفراق إلا من جربه، وبدأت الجموع تنفض، نلتقي هنا بعد أسبوع في ذات المكان صباحاَ، وتوزَّع الناس كلٌ في طريق، بينما أولاد مصطفى استمتعوا بلقاء عمِّهم.
جابوا دمشق، ذلك أنَّ العم لا يعرفها، وزاروا الأماكن الأثرية فيها، وأثناء الفرجة رأى العم نهر بردى، ووقف عنده لأكثر من نصف ساعة، والأولاد صامتون،، وقد تذكر بيت شعر في النهر:
بردى ما الخلد الذي قالوا عنه إلاك بين شوادن وشوادي
أكلوا عند بكداش البوظة الحليبية على أصولها، وجلسوا في مقهى النوفرة ثمَّ صلَّى العمُّ في المسجد الأموي وهو يعجب بقدمه وروعة بنائه، وتمتع بزيارة سوق الحميدية، وذهبوا إلى ضريح صلاح الدين فقرؤوا له الفاتحة، بعدها زاروا المتحف الحربي، واشترى العمُّ من السوق الملاصق له حقيبة جلدية من صنع يدوي، لأنَّ ابنته أوصته على حقيبة مصنوعة من الجلد الطبيعي، لقد قال لهم أبوهم: إنَّ أخاه لا يعرف دمشق التي تنبض بالحياة، فعليه أن يراها كي لا يبقى في الحلق غصة.
وبعد ذلك جاء السفر إلى حلب، إلى مخيم النيرب، وبعد التقبيل والعناق، ما بين الأخين، جاء المبعدون عن أرضهم، ليسألوا: هل بيوتهم ما زالت موجودة أم خرَّبها الصهاينة، جاؤوا يسألون عن أقاربهم هل هو أحياء أم أموات، اجتمعوا في بيت له حديقة، جلبوا الكراسي وصفَّوها، كأنَّهم في عرس، وجلس العائدون في الأماكن رجالاَ ونساءَ، امتلأ المكان بالزائرين، الجميع جاؤوا ليسألوا، ثمَّ دخل إبراهيم عليهم وكأنَّه العريس، ولكن دون صياح، الجميع كانوا صامتين، وجلس في صدر المجلس، ثمَّ أخذ يشرح لهم: إنَّ ترشيحا التي هجروا عنها، لم تعد هي كما كانت، لقد تحوَّلت إلى قرية صغيرة بعد أن أضيفت إليها معالوت التي سكانها من اليهود، وهي اليوم تسمَّى بالاسم الجديد، سكانها معظمهم من اليهود، والعرب الذين هم قلَّة من مسيحيين ودروز ومسلمين، يشكلون جزءاَ بسيطاَ من السكان، ويجري فيها سنوياَ ملتقى النحت إذ يأتيها النحاتون من كلِّ مكان في العالم فيقيمون معرضاَ لهم، وينحتون ويأخذون حجرها المعروف بجودته وجماله، إنَّها مطاعم ومقاه تملأ الطرقات، ترشيحا اليوم تغيَّرت ولكنَّ القرية القديمة بقيت على حالها.
انقضت مدَّة الأسبوع، والعمُّ إبراهيم يستقبل هذا ويودِّع ذلك، وقبل الرحيل زار المعالم الأثرية المعروفة في حلب، فقد أُخِذَ إلى قلعتها وأعجب كثيراَ بها، وجلس أمامها في المقهى، وراح يتأملها، كذلك زار خان الشونة والجامع الكبير، وزار الأسواق في المدينة القديمة، والأبنية الاثرية التي أمام القلعة، اشترى القمصان من معمل سمير أميس، وفي اليوم التالي جمع أغراضه التي اشتراها، وذهب الأولاد معه إلى ساحة الكرنك في دمشق، وذلك بعد أن ودَّع أخاه وداعاَ يبكي الحجر، كان أخوه في السرير مشلولاَ يبكي وكأنه لن يرى إبراهيم مرة ثانية.
مجلة قلم رصاص الثقافية رهان أخير على دور الفكر الحر والمسؤول في إعادة بناء الوعي واستعادة منظومة القيم، "على قلم وساق" من أجل ثقافة هدفها الإنسان.