الرئيسية » رصاص خشن » الشاعر نزار بريك هنيدي يبحث في لغز المتنبي

الشاعر نزار بريك هنيدي يبحث في لغز المتنبي

لن يرضى المتنبي بالخنوع والاستسلام، بل ثبت في وجه مصائب الدهر وراح يقارع خطوبه، حتى باتت نيوب الزمان تعرف قوته وصلابته:

                   إنّ نيوب الزمان تعرفني                 أنا الذي طال عجمها عودي

لقد لاحظ المتنبي وقوف الزمن في وجه طموحاته، وتعطيله لمشاريعه، فكلما همّ بعمل شيء، عرقلت عمله الليالي، وخيبت مسعاه، وكأنها تنافسه فيه، ويؤكد المتنبي أنّ له حقاً سلبه منه دهره، ولما طالبه به ماطل وأنكر، لأن الدهر غدَّار بطبيعته، وما دام الأمر كذلك فهو يرفض عطاء الزمان، فمن العبث أنّ نشكو آلامنا له، ونرجو منه مساعدتنا عليها لأنه هو نفسه من تسبّب فيها.

لم يبق أمامه إلا أن يعلن الحرب على الزمن، كما أعلنها على أعدائه جميعهم، أما وسائله فكثيرة وأهمها: الحبّ، فبالحبّ يفرض الإنسان شروطه على الزمان ويسيطر عليه.

                    إنّ كان قد ملك القلوب فإنّه             ملك الزمان بأرضه وسمائه

وبالصبر والحلم وعدم الرضوخ لليأس والبطولة والشعر ، فهو يؤكد أنّ الشعر وحده كفيل بتحويل الدهر إلى قوّة أليفة ولطيفة :

                   وما الدهر إلا من رواة قصائدي       إذا قلت شعراً أصبح الدّهر منشدا

ربما كان “المتنبي” من أكثر شعراء العربية تجسيداً لنزوع البشرية إلى (الإنسان الكامل )، ومن أفضلهم تعبيراً عن سمو الإنسان على مفردات وجوده، وصراعه الأبدي مع شروط واقعه ومن أبرعهم تصويراً للسمات والملامح التي تليق بعظمة الإنسان، وكما قال “أدونيس” عنه: “إنّ شعره كتاب في عظمة الشخص الإنسانية يسيّره الجدل بين اللانهاية والمحدودية، الطموح الذي لا يعرف غاية ينتهي عندها، والعالم الهرم الذي لا يقدر أن يتحرّك ويساير هذا الطموح … شعره وهو يتجهان صعداً في آفاق العظمة دون أنّ يبلغا عظمة أخيرة يرتاحان إليها ويقفان عندها”.

إنّ كثيراً من الأمثال الشائعة التي تدور على الألسنة اليوم هي من أبيات المتنبي، وقد ذاع بعضها ذيوعاً لا يعرفه أي كلام في تاريخ اللغة العربية، ويقول خليل حاوي عن المتنبي: “إنّ الآية الشعرية لا تكتمل إلا إذا نزلت فيها آية حكمية توجزها وتؤكدها وتمنحها اليقين العمومي الراسخ، وهكذا تراه يصيح وتصيح معه أفواه العصور حتى يومنا هذا :

          ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه           تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ومن الواضح أن ما يقوله الدكتور “حاوي “، ينطبق على العديد من أبيات المتنبي الأخرى، فمن ذا لم يردّد اليوم :

       لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى      حتى يراق على جوانبه الدم

          أو : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته     وإنّ أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

          أو : عيد بأية حال عدت يا عيد

          أو : عش عزيزاً أو مت وأنت كريم … الخ .

ولا شك في أنّ فهم المتنبي لطبيعة النفس البشرية، وقدرته على التقاط المواقف، وبراعته في التماس الحلول، وعبقريته، هي التي كفلت لحكمه وأمثاله البقاء والانتشار، كما كفلت خلوده كشاعر من شعراء الإنسانية الكبار.

إن المتتبع لأخبار المتنبي في الكتب التراثية التي سردت سيرته، يظهر لنا مدى حرصه على تثقيف نفسه، وشغفه بالنيل من العلوم، وقدرته على تمثلها وتطويعها لخدمة منجزه الشعري، فقال عنه “يوسف البديعي” في “الصبح المتنبي”: “وكان محبّاً للعلم والأدب فصحب الأعراب في البادية، وجاءنا بعد سنيين بدوياً قحّاً”. وعند عودته إلى الكوفة درس الفلسفة على يد “أبي الفضل الكوفي”، وعندما غادر بغداد اتصل بأحد المتصوّفة، وهو “هارون الأوراجي” وبعد أن وصل إلى بلاط سيف الدولة التقى الفلاسفة والعلماء الذين كان يضمهم مجلس الأمير.

وممّا لا شك فيه أنه قرأ الفلسفة اليونانية جيداً، ومن الواضح أنه قرأ التاريخ والميثولوجيا قراءة متمعنة مكنته من استحضار الشخصيات التاريخية والأسطورية وتوظيفها في شعره. وكان مطلعاً على ثقافات الشعوب والأقوام المختلفة، ويعرف عقائدها ومذاهبها الدينية والفلسفية. وكان حريصاً على امتلاك اللغة وأسرارها ومعرفة دقائقها ونوادرها، كما كان مولعاً بإظهار تفوقه في علومها، وقد كانت آثار الشعراء الجاهليين والأمويين أساس مطالعات أبي الطيب.  ويتضح لنا مدى الجهود المضنية التي دأب المتنبي على بذلها والأساليب والطرف المتعدّدة التي لجأ إليها، للعمل على ترويج نفسه، وخدمة شعره، وتهيئته ليكون جديراً بالمجد والخلود، بل يبدو واضحاً أنّه وقف حياته كلّها للوصول إلى هذه الغاية، فلم يترك باباً إلا وطرقه، ولا وسيلة إلا واستخدمها.  لم تثنه الصعوبات التي ملأت طريقه، ولم يذعن للأعراف والتقاليد التي انتصبت في وجهه.  لم يرض بالقليل الهيّن الذي رضي به غيره، ولم يقتنع بالمباهج المبذولة التي وضعت بين يديه، لم ينم ملء جفونه ليلة، ولم يدع فرصة إلا اغتنمها في سبيل صناعة مجده، حتى لو كلفته حياته، وهو ما حدث حين رفض الفرار من الموت بسبب بيت من شعره، فشعره أهم وأغلى من حياته نفسها.

 

المؤلف في سطور :

د. نزار بريك هنيدي: ولد في قرية جرمانا في ريف دمشق عام 1958 ودرس فيها، ثم انتقل إلى جامعة دمشق ليدرس الطب البشري، وتخرج فيها عام 1982، عضو اتحاد الكتاب العرب وشاعر له من الأعمال: البوابة والريح – جدلية الموت.

 

  • لغز المتنبي
  • د. نزار بريك هنيدي
  • وزارة الثقافة – الهيئة العامّة السورية للكتاب – دمشق
  • عدد الصفحات : 112 صفحة ؛ القطع : 19 × 5 سم

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فيصل خرتش

فيصل خرتش
فيصل خرتش روائي سوري مُقيم في حلب، حائز على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1994. صدرت له تسع روايات: موجز تاريخ الباشا الصغير (1990) والتي مُنعت من التداول في سوريا، تراب الغرباء (1994)، أوراق الليل والياسمين (1994)، خان الزيتون (1995)، مقهى المجانين (1995)، حمّام النسوان (2000)، مقهى القصر (2004)، شمس الأصيل (2008)، ودوّار الموت بين حلب والرقة (2017)، إضافةً إلى عدد من المجموعات القصصية، منها: الأخبار (1986)، وشجرة النساء (2002). وله مسلسلان تلفزيونيان، وفيلم سينمائي عن روايته (تراب الغرباء) من إخراج سمير ذكرى وحاز على جائزة أفضل فيلم سينمائي في مهرجان القاهرة عام (2000) وهو عن المفكِّر عبدالرحمن الكواكبي. كما فاز فيصل خرتش، بجائزة الطيب صالح (المركز الأول) عن روايته (أهل الهوى) عام 2018.

شاهد أيضاً

وجدت الهفا يا صاحبي وجدتها .. وجدتها

آه يا صاحبي كم صنعنا من خيالنا سفن فضاء؟  وكم اخترعنا في أحلامنا  نوقاً مجنحة؟  …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *