كنت ذاهباَ إلى الفحص من أجل الدورة التكميلية، أعددت نفسي للذهاب، ومررت على أبي في أرض الدار كي آخذ رضاه، لأنَ رضا الأب من علامات الجنَة، وكان الحاج يحب إذاعة ال ب. ب. س التي تأتينا من لندن عبر قبرص، إنَه يخرج الراديو الفيليبس إلى أرض الدار، ويضعه على كرسي مخصَص له، كان كبيراَ وله عين ساحرة لونها أخضر، تضيق وتتسع بحسب حركات الإبرة التي يحركها أبي حتى تخرج معه إذاعة لندن، إنَه يخرجه ويخرج معه الفراش الإسفنج والمخدتين، يتربَع تحت شجرة المشمش، ومن خلالها ينظر إلى الجهة الغربية حيث القلعة تبدو للناظر إليها وكأنَها رمز للقوَة والجبروت على مرَ الزمان، جاءته أمي بدلة القهوة والفنجان ثمَ ذهبت وكانت تدعو لي أن أعود سالماَ وغانماَ، سلمت عليه وأخذت دعاءه وقبل أن أذهب إلى الجامعة أعلنت الإذاعة بدقاتها الرتيبة موعد أخبار الساعة السادسة، وكان أوَل خبر هو: موت الرئيس جمال عبد الناصر، والحزن الذي أصاب الناس في مصر وغيرها من المدن العربية، صعقنا الخبر ولم ندر ماذا نفعل، نظرت إلى أبي كان قد اصفرَ لونه وصار يرجف والسيجارة التي كان يلفها وقعت من يديه، ومال على الطرف اليسار، وفجأة صرخ بكامل صوته: “لقد مات عبد الناصر، لقد سمَموه، مات أفضل رئيس عند العرب ” لقد كان يحبُه ويتلقط أخباره.
أفاق الذين في نومهم سادرون، وإلينا جاؤوا وهم يعركون عيونهم، كان أبي يلطم خديه ويضرب على صدره، استطعت أن أهدئه وأجلسناه أنا وأخي الذي يكبرني على الفراش، وصار يبكي والراديو يذيع الأخبار عن عبد الناصر، لفَ أخي التبغ في الورق ثمَ أعطى السيجارة إلى أبي، وأشعلتها له، وأخبرته أنَ الموت حقٌ وكل إنسان سوف يلقى ربَه وكلنا على هذا الطريق، وعندما أدركت أنَه هدأ ودعت الجميع وانطلقت إلى الفحص.
حركة غير طبيعية تجري في الجامعة، الكلُ كان على رؤوسهم الطير، لا أحد يتكلَم مع أحد، الكلُ يعرفون أنَ عبد الناصر قد مات، هنا شاب بين مجموعة من الشبان يبكي، وهناك مجموعة من الفتيات يتكلَمن همساَ بموته، الجميع صامتون يخيم عليهم الموت، ودلفنا إلى القاعات كلٌ في طريق، وزِعت الأوراق والأسئلة، لم أعرف ماذا أكتب، أمضيت الوقت المخصَص وسلمت ورقة الفحص وخرجت دون أن أكتب شيئاَ، اتجهت إلى مركز توزيع الجرائد، في المنشية القديمة، كان الناس الواقفون أمامه يعدون بالعشرات، وكان المركز مغلقاَ، تسللت بينهم وانتظرت ريثما يفتح الباب، وعندما فتحت (الدرابية) قليلاَ، نزلت واستطعت أن أحصل على مجلة (المصور) كان الغلاف الرئيسي يعلن موت الرئيس، أخذتها وخرجت من بين الزحام، تلقفني أحد المزاحمين وقال: هل تبيعها؟ قلت: هات، وأعدت الكرة عدة مرات، إلى أن أغلقوا باب الدكان، وكنت قد حصلت على مجلة (آخر ساعة) كل المجلات والجرائد (الأخبار ـ الأهرام ـ الجمهورية) كانت تعلن خبر الوفاة.
عدت إلى البيت فوجدت أبي مازال قاعداَ في مكانه وهو يضع كفيه على رأسه، ربَما كان يبكي، كان يحب عبد الناصر وقد علَمنا كيف نحبه، واسيته وأعطيته المجلة، كان الرئيس يملأ الصفحة الأولى، نظر أبي إليها وانتابته نوبة من البكاء،
مات الزعيم يوم الاثنين الساعة السادسة وبقيت إذاعة صوت العرب والقاهرة والشرق الأوسط، ترسل القرآن الكريم عبر موجاتها، ولم تعلن الخبر حتى سمعناه من إذاعة لندن، وبعد ذلك تمَت إذاعة الخبر.
جمال عبد الناصر ولد في الإسكندرية، في 15 يناير وتوفي يوم الاثنين 28 سبتمبر عام 1970، وهو من بني مرُ في الصعيد، أقام عند عمِه لمدَة ثلاث سنوات، وأخذ الثانوية من القاهرة، وفي عام 1937 التحق بالكلية العسكرية الملكية وتخرج فيها ثمَ حصل على وظيفة مدرِب في الأكاديمية العسكرية، وشكل مجموعة الضباط الأحرار، وكانوا يجتمعون في بيته، ثمَ أرسل إلى فلسطين وخدم في كتيبة المشاة السادسة في الفالوجة وحوصرت في حرب 48 ورفضت الاستسلام، وعاد مع مجموعة الضباط الأحرار ليقوموا بالثورة على الملكية، وهو ثاني رئيس لمصر بعد محمد نجيب، استلم الرئاسة في 25 يونيو1954، وقد حاولت جماعة الإخوان المسلمين اغتياله ولكن المحاولة باءت بالفشل، لقد بنى السد العالي، وأمم قناة السويس مما ألَب فرنسا وإنكلترا عليه وساعدتهما إسرائيل فشنوا على مصر حرب السويس عام 1956 ثمَ تمَ إعلان الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، وقد كان ينزل من المطار في حلب ويتجه إلى دار الضيافة فيمر من أمام بيتنا، كنَا نراه ونركض وراء السيارات إلى القصر، نسمع خطابه، وكنا نردَد في المدارس:
عبد الناصر يا جمال يا مقدام عروبتنـــا
فيك نحقق الآمال وانت غاية وحدتنا
ثمَ وقع الانفصال في عام 1961 ولكننا بقينا نحبُ الرئيس حتى فترة متأخرة، وكنا نصيح في المدارس:
لا دراسة ولا تدريس حتى يرجع الرئيس
كنا ننطلق في المظاهرات ونحن نردِد: نحن جنودك يا جمال، وعندما وقعت حرب حزيران في عام ال 67 وتحطمت الطائرات المصرية عند الفجر، قلنا: إنها خيانة على عبد الناصر، وبخاصة عندما علمنا أنَ كافة الطيارين كانوا يسهرون حتى ساعة متأخرة من الليل على أنغام إحدى الراقصات، قلنا في ذلك الحين: إنها مؤامرة، وعندها استقال الرئيس ومشت الحشود إلى بيته تمنعه من الاستقالة، قضى بقية حياته مريضاَ بتصلُب الشرايين ومضاعفات مرض السكري، وكان سبب الوفاة ” نوبة قلبية ” سيكون الثامن والعشرون من شهر أيلول هو اليوم الأسود في تاريخ مصر والوطن العربي.
وهنا في حلب أقيمت في حي (الكلاسة) الشهير بحبِه للرئيس عبد الناصر، جنازة له، وطافت في الحي والأحياء المجاورة، لقد حمل الناس تابوتاَ فارغاَ وزينوه بعلم الوحدة وساروا وراءه وهم يهتفون بالشهيد حبيب الله، وقد سمَوا الجامع الذي في مدخل الحي باسم جامع جمال عبد الناصر، ولا يزال إلى الآن يحمل اسمه.
كذلك قام الاتحاد الاشتراكي ومواطنون آخرون، بإقامة جنازة له، انطلقت من الجامع الكبير وطافت بالأحياء المجاورة مروراَ بالقلعة ودوَارها وقد وضعوا الزهور على الضريح كما حملوا الأعلام وساروا به، يتبعهم فرق الإنشاد وفرقة الجنائز الموسيقية، وسار معهم بعض القساوسة والمشايخ، وكانت بعض من فرقة المولوية يدورون أمام الضريح، ويمشون وهم يحملونه والهتافات تملأ المكان، بعض الناس كانوا يبكون بصوت مرتفع وبعضهم يبكون بصمت، وكان عددهم يقدَر بالآلاف.
مات الرئيس جمال عبد الناصر، أحد قادة الثورة، وكان مخرزاَ في عين إسرائيل، لم يهادن ولم يركع، ولم يستسلم، لقد ظلَ مرفوع الرأس معتزاَ بكرامته، مات زعيم الأمة العربية.
مجلة قلم رصاص الثقافية