الرئيسية » رصاص ناعم » مساءلة الكتابة والأنوثة والسلطة في ديوان “سفر على نار باردة” للشاعرة كوثر بلعابي

مساءلة الكتابة والأنوثة والسلطة في ديوان “سفر على نار باردة” للشاعرة كوثر بلعابي

ينتمي ديوان “سفر على نار باردة” للشاعرة التونسية كوثر بلعابي إلى الشّعر التّأمّلي، وهو شعر يقوم على زعزعة البديهيّات وتمزيق الثّنائيّات الجاهزة وتفكيك الصّور النّمطيّة الّتي تشكّل الوعي الجمعي، إذ كتبت الشاعرة قصائدها كسفر داخليّ مكثّف في حقل يعجّ بالتّناقضات النّفسيّة والوجوديّة واللّغويّة.

“قوّة الكلمة ” في ديوان “سفر على نار باردة”:

حين نقف أمام العنوان باعتباره “عتبة الانفعال النّصّي” نجد أنفسنا إزاء عنوان يقوم على تركيب “أوكسي مورن” (oxymoron)، أي تركيب بلاغي يجمع بين كلمتين متضادّتين ظاهريا “نار / باردة” لينتج صورة شعريّة عالية الكثافة تعبّر عن استعارة كبرى لجوهر القصائد كلها عبر “الصّدمة البلاغيّة”، إنّه عنوان يكثّف معنى مفارقة الوجود المعاصر، إن صحّ التّعبير، من منظور شعري فـ”السّفر” يحيلنا إلى رحلة الذّات عبر التّجربة واللّغة، في حين تحيلنا “النّار الباردة” إلى أقصى درجات التّوتّر البلاغي والوجودي، إذ يراوح بين الحرارة والبرودة، بين الاشتعال والانطفاء…

يشكّل العنوان استعارة بنيويّة لحالة الذّات المبدعة الّتي تكتب منها الشّاعرة وهي ذات ثائرة مدركة لقوّة الكلمة والدّور الّذي يمكن أن تلعبه في مساءلة الواقع والتّذكير بالهويّة والتّحريض على الثّورة ففي قصيدة “الشّعر حب” مثلا تدعو الشاعرة القرّاء إلى التأمّل معها في جوهر فعل الكتابة الشعرية، عندما تقول:

“كأنّ أحرفنا الأحلام خالدة

تُحيي النّفوس فلا حزن ولا تعب

ما قيمة الحرف إن كانت عواقبه
جرحا أليما ورشقا بعده كرب”

إنّ كوثر تمارس فعل الكلام وهي واعية بخطورته فالكلمة عندها “توجّه” و”تصدح بالحقّ” و “تحمي الضّاد” و”تبني الحضارة” ولذلك جاءت القصائد في هذا الديوان تحرّريّة وانعتاقيّة.

القصيدة الانعتاقية: الكتابة الشّعريّة تحرّر الجسد والذّاكرة:

 الشّعر عند كوثر بلعابي فعل انعتاقي يتحرّر به الجسد الأنثوي من سلطة القوالب المجتمعية الجاهزة والأدوار النمطية المفروضة.  ففي قصيدة “مواد تجميل منتهية الصّلاحيّة” تستجوب الشّاعرة السّلطة الذّكوريّة والمسلّمات والمغالطات التي تحصر المرأة ضمن نماذج استهلاكيّة لا تصلح لواقع يهان فيه الانسان وتسلب فيه الأوطان ليحضر الجسد في نصوصها لا كموضوع جماليّ حسّيّ مغر، بل كإرادة مقاومة وإعلان وجود، من ذلك تساؤل الشّاعرة بلغة ساخرة:

 “من أين نأتي بـ”كريمات”
صالحة للحبّ؟

تزيلُ البقع السوداء في القلوب..

تجدّد الخلايا في العقول ..
تدلّك المفاتن..

لننعش نخوة الحضارة
لتنبت الإرادة في الحجارة “

القصيدة الانعتاقيّة: كتابة الشّعر ضدّ النّسيان:

تؤكّد الشّاعرة  كوثر بلعابي على التزامها بكتابة الشّعر كفعل تحرّري لإعادة قراءة التّاريخ والهويّة من خلال كتابة الذّاكرة إذ يحتلّ الزّمن الذّاكري موقعا مركزيا في ديوان “سفر على نار باردة”، حيث تتداخل تجربة التّذكّر مع الحاجة الملحّة للتّوثيق، وتتحوّل القصيدة إلى شهادة وجدانية – سرديّة على الماضي، لا بهدف الوقوف على الأطلال كتقليد شعريّ كما ذهب إليه أبو هلال العسكري عندما قال: “كانت العرب في أكثر شعرها تبتدئ بذكر الديار، والبكاء عليها، والوجد بفراق ساكنيها”، بل كاستحضار لظاهرة تقليدية في الشّعر العربي لتوظّفها في سياق شعريّ حديث فتحضر الأطلال كخلفية ثقافية في بناء النص، أي تصبح الأطلال بالمعنى المفهومي والاصطلاحي هي تلك التي تشغل ذات الشاعرة، وإن لم تحضر بصيغة لغوية مباشرة،  لإنقاذ الذّاكرة الفردية والجماعيّة من النّسيان أو المحو الرّمزي.

تقدّم الشّاعرة هذا الاشتغال الشعري على الأطلال والذّاكرة في نصوص عديدة تتقاطع فيها الأمكنة الدّاخليّة كالمنزل، المدرسة والمقهى …والأمكنة الخارجيّة كالمدن، الوطن والطريق… لتنتج بذلك سرديّات شعريّة تؤرّخ لا للحدث فقط، بل للانفعال الّذي خلّفه الحدث في الذّات. فالأماكن والذّاكرة الفرديّة والجماعيّة تتداخلان في تشكيل الحاضر، ومساحات الذّكرى، سواء كانت مادية أو رمزيّة، تمتلك القدرة على إثارة انفعال زمني عميق عند الفرد والجماعة.

وهذا ما يمكن ملاحظته في قصيدة ” أنا…والبلاد…والذّاكرة “، حيث تقول الشّاعرة:

” تلملم أشلاءها الذّاكره…

وتقعد بيني وبين البلاد…

وتفتح أيّامها القاتمه…

لماذا يا أرضنا الفاتنة؟؟

تركت نخيل الجريد
ينوس على الرّملة اللّافحه…
وأين دفنت الذين قضوا في المناجم ؟…

 

وفي قصيدة “البيت العتيق”، ينتقل هذا التّوظيف للأطلال إلى تفكيك الصمت المكاني: فالبيت، الذي كان يوما مأوى وملاذا عادة ما يرمز إلى الأمان والاطمئنان والاستقرار، يتحوّل إلى مرآة لجرح الانتماء تبيّن هشاشة الأمان وتصدّع الرمز:

“ذلك البيت القديم الذي كان
ماعاد عُشّنا الذي نأوي إليه
كي نحتمي ..

 من خيبة بها يقهرنا الخذلان

من عضّة بها ينهشنا الزمان”

ويتقاطع هذا التوظيف الرّمزي مع أطروحة غاستون باشلار الذي يرى أنّ البيت ليس مجرّد بنية عمرانية، بل كونا حميميا (un cosmos intime)، حيث تتكثّف فيه السّكينة، الخيال، والذّكريات العاطفيّة، ليغدو أحد أبرز “القوى المتكاملة للخيال البشري” (باشلار، جماليات المكان، ” (Bachelard, La Poétique de l’espace, 1957 ، وما كبته الشاعرة في هذه القصيدة هو نقض لهذه السكينة، وكشف هشاشتها حين تجرَّد من دفئها الرمزي بفعل التحوّل الاجتماعي أو التّهجير الرمزي أو الخسارات المتراكمة.

تبدو هذه القصيدة في ظاهرها ذات طابع حميمي، لكنّها تُخفي تحت هذا القناع خطابا اجتماعيا حادا لاذعا، يسائل تحوّلات الواقع الأسري والاجتماعي والوطني. فالتغيّر الذي طال “البيت” ليس فقط تآكلا في العمران، بل هو تآكل في منظومة القيم، وفي بنيان الأمان الاجتماعي.

في قصيدة  “البيت العتيق “، لا تسائل الشاعرة مكانا هندسيا فقط، بل تمارس نقدا شعريا للهويّات الهشّة والتحوّلات الاجتماعيّة الصّامتة. فالبيت ليس صورة من الماضي، بل هو علامة دلالية على فقدان ما كان يحمي، ويربط، ويحتوي. وهكذا، يتجلى الشعر لدى كوثر بلعابي بوصفه أداة تأريخ وجداني للمُتصدّع، وانبعاثا صامتا من ركام الرّموز المنهارة.

القصيدة الانعتاقيّة: كتابة الشّعر انتصارا للقضيّة الفلسطينيّة:

منذ تصفّح فهرس الدّيوان والاطّلاع على عناوين قصائده، تعلن بلعابي التزامها القومي، ونذكر من هذه العناوين على سبيل العدّ لا الحصر، ” أنا.. والبلاد.. والذّاكرة، نشيج العروبة، الأرض النّازفة، ترنيمة إلى شهيد شابّ، اعتذار لغزّة…”

هذه العناوين تمثّل “عتبة الانفعال النّصّي” بمعنى “جرار جينِيت”(Gérard Genette)، تشعل لدى القارئ شحنة عاطفية وسياسيّة قبل الانطلاق في قراءة القصيدة. وبذلك، فإنّ الفهرس في هذا الدّيوان لا يكتفي بوظيفة تنظيم المحتوى، بل هو إعلان موقف ودعوة ضمنيّة – علنيّة للتّضامن والانشغال بالقضية الفلسطينية.

وتتبلور هذه الرؤية بلغة شعرية محمّلة بالشّحن القومي مثلا في قصيدة “الأرض النازفة” حيث تقول الشاعرة:

“هي الأرض المقدّسة الرّاجمة
لنا فيها زيتونة ثابتة
لنا فيها أهل كشُمّ الجبال
بنادقهم … إن علت …
هدير القيامة القائمة”

وفي قصيدتها “ثكل وطني” تناهض الكاتبة التّطبيع وتدين الصّمت العربيّ وهي تصوّر لنا ثبات فلسطينيّ هدم بيته معبّرة عن تضامنها المبدئي والعميق معه حين تقول:

” إنّما… في زمن التّطبيع العربيّ

اكتفى بالتّطبيع مع أوجاع ثُكله..

بات يدثّره مطر الشّتاء..

أيّها الصّامد قهرا

خذ زمامك…امتط فرس زمانك

نحن الذين ثُكلنا..

بين الرّموس ظللنا

خلفك محض هباء…”

يتجاوز ديوان “سفر على نار باردة” حدود الذات والمكان لينهض كـبيان وجوديّ إنساني-عروبي، يلبس الكوفية الفلسطينية، متحدّيا كلّ صمت وسلطة تعمل على محو القضية. فالشعر عند بلعابي احتجاج تحرّريّ يوقظ الضمائر، ينفخ في نخب الكرامة، ويذكّر الذاكرة الشعبية بما قُلب من ثوابت.

هذا الديوان… شهادة شعرية واحتجاج على ما يهمّش وينسى ويتآكل

يتأسس ديوان “سفر على نار باردة” على تأمّل جمالي وانخراط وجودي في آن واحد، ما يضع القارئ أمام تجربة لغوية شعريّة مزدوجة ومثيرة: فمن جهة، هو بوح شخصيّ عميق يغوص في أعماق الذّاكرة محرّكا المياه الرّاكدة في بئر القلب العميقة، ومن جهة أخرى، يشكّل بيانا شعريا ينخرط بجرأة في مساءلة التّاريخ، والذّاكرة، وقضايا التّحرّر ومفهوم الأنوثة، وطبيعة اللّغة ذاتها. فالشّاعرة تسائل الوجود مراهنة على الشّكّ والتّوتّر والنّقد لحظة الكتابة في مواجهة عالم وحشيّ في تفكّكه وتفكيكه لكلّ ما هو جمالي…

 الشعر عند الشّاعرة كوثر بلعابي هو فعل مقاومة رمزيّة ضدّ المحو والنسيان والتشييء. إنها تكتب من الهوامش، ليس لتظلّ فيها، بل لتعيد ترتيب المركز، وتستحضر المرأة لا كصورة جامدة أو موضوع يتجمّل به، بل كذات فاعلة، شاهدة، وشاعرة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات القوة والوجود.

النّصوص في هذا الديوان تنحت عالما شعريًا فريدا من شظايا الواقع المتناثرة، وتحملنا هذه الشظايا نحو كثافة رمزية لا تلغي الواقع أو تجعله مبهما، بل تسلّط الضّوء عليه وتمنحه أبعادًا جديدة. إنّ كوثر بلعابي في هذه النّصوص تكتب الجرح، لا لتغلقه أو تخفيه، بل لتمنحه معنى عميقا، وتعيد إليه حقّه في الكلام، ليصبح شاهدا على إرادة الإنسان.

بهذا المعنى، يمكن اعتبار “سفر على نار باردة” بيانا شعريا تأمّليا معاصرا. إنّه ديوان ينهل من اليوميّ العادي، ومن المحلّيّ المحدود، ومن المقموع والمهمّش، ليعيد بناء القصيدة بوصفها مساحة حرّة للبوح الصّادق، وللسّؤال الوجودي الملحّ، وللمقاومة الدّاخلية الصّامتة الّتي قد تكون أشدّ تأثيرا. ولعلّ قوة هذا الديوان تكمن في أنه يُخاطب القارئ لا بما قد يرغب في سماعه أو ما هو متوقّع، بل بما يجب أن يقال، ولو كان ذلك همسًا خافتًا… “على نار باردة”.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن مديحة جمال

مديحة جمال
كاتبة قصة وناقدة أدبية، رئيسة قسم اللغة العربية بالمدرسة الكندية في تونس.

شاهد أيضاً

أبجدية من بقايا وطن

مريم الشكيلية  |  . هذه أول سطوري أكتبها لك بعد صيامي الكتابي منذ قرابة ثلاثين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *