لن تُساعِدكَ ضجَّةُ أوروبا في أن تُشيحَ سمعَكَ عمّا يحصلُ في سوريا، ولن تُساعِدكَ أضواءُ المدينةِ المكتظّةِ أن تَنسى عَتْمَتَها، وكم صُدِمَ بعضنا في هذه البلاد أنَّ العَتْمَةَ مَزروعةٌ فينا، وأنّنا لم نخلقها!
إثمٌ كبيرٌ ينطوي في صدورِنا؛ يخنقنا، يمزِّقُ ما تبقّى من ابتسامة الأطفالِ في قلوبِنا، يَضربُ ويُطَبْطِبُ كاِكْتئابٍ مُعَمَّمٍ، يَنتشلُنا من حدائق برلين المتنوّعة، يصْهرُنا في بوتقةِ السُّوريَّة.
أيُّ إثمٍ هذا الّذي ابتُلينا به؟ حيث شَهِدْنا وتَعلَّمْنا أنّ كلّ مُشكلةٍ على هذه الأرض أوجدَ لها حَلٌّ بطريقةٍ أو بأخرى، إلّا نحن… ومَن لَفَّ لَفيفَنا من التّعقيد السوري، الذي بات بطريقةٍ أو بأخرى مقيتًا… حتى الملل.
لطالما اعتبرتُ أنّنا شعب بسيط، أو سهلُ القراءة – إنْ صحّ القول – لكنّني بِتُّ أعي اليوم أنّنا شَعبٌ مُعقّدٌ، متناقضٌ؛ يحملُ الكثيرَ من العُقَدِ التاريخيّة… شعبٌ يحملُ الخلافاتِ، الدينيّةَ منها والفلسفيّة، على عاتقِه، بلْ ويتفاخرُ أهلُ وَطني بهذه التّرهاتِ التاريخيّة. يَخيِطون لها الأعلام، وينظّمون الأشعارَ، ويُلَحِّنون لها ما فَتَنَ وحَرَّض، وما رثى وتوعَّد، وما حَزِنَ وانتصر!
لكنّهم عاجزون عن صِناعةِ ما يَجمع الإنسان السوري، فقط كـ”إنسان”، مع الإنسانيّةِ الحديثة؛ بكلّ سلبيّاتها الّتي أَمقتها، لكنّها تَبقى إنسانيّةً أكثرَ من قَصصِ أهلِ السّلفِ وخِلافاتِ السّياسةِ الدينيّة التي سَفَكَتْ من شعبنا دمًا يملأ قُلوبِ الأمهاتِ الثّكالى… مَلَكَ سليمان وفاض.
لعنةُ سُوريا، بما فيها، وجُلُّ ما فيها، استمراريّتُها، وفَخْرُنا بلَعنَتِها!
فإذا وَزنّا اللّعنة الفلسطينيّةَ باللّعنة السّوريّة -وما أَفْخَرَنا بوزنِ لَعنةٍ بأخرى!- سنجد أنّ لَعْنَتَهم أقلُّ لَعنةً من لَعنتِنا، لكثير من الأسباب، وأهمّها: معرفةُ السّببِ المباشرِ لما يحدُث، وعند معرفةِ السبب، بَطُلَ العَجَب.
لعنتنا مزيجٌ من أفلاطونيّة مُشوَّهَة، وحَملُ تاريخٍ سياسيٍّ ودينيّ، تُزَيِّنُهم العصبيّةُ القبليّةُ والعشائريّةُ الصَّدِئة، قليلٌ من المناطقيّة، وبعضٌ من الإثنيّة… ومِمّا يفاجئُنا دائماً: العنصريّةُ الممسوخةُ بنكهةِ توابلِنا، ورائحةِ بَخورِنا، وأشعارِنا التي تتبجّحُ بالتهديدِ والوعيدِ والمسامحة… بعد أن نفتِك بالطرفِ الآخر، ونُجَرِّدَهُ من مالِه وشبابِه وذكرياته!
ما أجملَنا… وما أرحمَنا !
في بلادي، وفي هذا الحيِّزِ الجغرافيّ، نقتلُ بعضنا بدواعٍ مختلفة. حتّى إذا أردت أن تكون وسيطًا لحقنِ الدماءِ، هناك الكثير من التُّهَمِ الجاهزة لك فقط، تمَّ تفصيلها بدقّةٍ متناهية، حتى تُقنِعَ أنتَ نفسك بأنّ دمك مهدورٌ، وسعيك مشكور، وعوضكَ على رَبِّهِم.
يُذَكِّرُنا “الكائن الفضائيّ” الذي خرجَ من بينِنا، بطريقةٍ غريبةٍ لا تُصدَّق، بغرابةِ لعنتِنا — (الشاعر والفيلسوفُ المغضوبُ عليه: أدونيس) — بأنّنا بحاجةٍ إلى “قَطيعةٍ تامّةٍ مع التاريخ”. انتهى الاقتباس.
وأنا، بقلّةِ تجربتي وتواضُعِ رؤيتي، أتمنّى أن نُضيفَ على ما قاله: أنّنا بحاجةٍ إلى قطيعةٍ حقيقيّةٍ مع إلهِ اللّعنةِ السّوريّة.
خمسَ عشرةَ دقيقةً من مَنزلي إلى مَحطّةِ القطار، التي تقلُّني أحدُ قطاراتها إلى مُنتصفِ برلين، ويشار إليها في الألمانيّة بكلمة (Mitte)
خمسَ عشرةَ دقيقةً يوميًّا، أمشيها بين غاباتِ الصّفصافِ والأكاسيا، أستمعُ فيها إلى ما عَجِبَ وفَتَنَ من أصواتِ العصافيرِ المتنوّعةِ في هذه الأرضِ الهادئة.
ومن أصواتِ العصافير، تَجرُّني ذاكرتي الموسيقيّة إلى عملٍ موسيقيٍّ نَفيس، شاركتُ به للموسيقار السّوريّ المهاجر، المايسترو نوري رحيباني، حيث قام بتلحينِ عملٍ أُوركستراليّ رائع القوام، بكلماتٍ ألمانيّة، معظمُ ما فيها الشّكرُ والتَّشَكُّرُ والحمد والتذَكرُ لهذا الوطنِ الجديد، الذي احتواه ودمجَه فيما أبدعَ باخ وفاغنر.
كنتُ أصغرَ عُمرًا، أقلَّ تجربةً، أضيقَ رؤيةً، ولم أَسأل نفسي الأسئلةَ المُباشرة التي تعلّمنا إيّاها الغربةُ عن طريقِ الوِحدة؛ أن نسألها لأنفسِنا.
رحِمَكَ الله يا أستاذ نوري… أعتقد أنّني فهمتُ لماذا تغزّلتَ كلّ هذا الغَزلِ ببلادِ ”الدُّويْتْشَه.”
خمسَ عشرةَ دقيقةً من منزلي إلى محطة القطار، كافيةٌ حتّى أُذكِّرَ نفسي أنّ رَبَّ سُوريّةَ يختلفُ تمامًا عن رَبِّ أَلْمانيا؛ سواء أحببتَ ذلك أم استفزَّكَ طرحٌ كهذا. لكنّ المحسوس والمعلوم يختلفان عمّا نعتقدُهُ ونَبغيه.
فمن غيرِ المعقولِ أنَّنا نتضرّعُ لنفسِ الإلهِ الذي يديرُ شعوبَ الأرضِ على اختلافِ مصائبِها!
رَبُّنا هو الربُّ السّوريّ، الغارقُ في أَتونِ الحروبِ التي ماتتْ، ولم يَبقَ منها سوى ما كُتب ونُقِل.
رَبُّنا يُقَدِّسُ الناسخَ والمنسوخَ، ويَكْفُرُ بسُلطانِ العقل، ويَنتَبِذُ من المنطقِ مكانًا قَصِيًّا.
سوريا بلدٌ ملعون… منذ بدءِ التاريخِ حتى اليوم.
لكن، هل نستطيعُ أن نسألَ أنفسَنا ذاكَ السؤالَ المَفْصليّ: مَن هو المَلعون؟ نحن؟ أم الأرض؟
مجلة قلم رصاص الثقافية رهان أخير على دور الفكر الحر والمسؤول في إعادة بناء الوعي واستعادة منظومة القيم، "على قلم وساق" من أجل ثقافة هدفها الإنسان.