الرئيسية » ممحاة » لماذا يُغلق الأصدقاء الأبواب؟

لماذا يُغلق الأصدقاء الأبواب؟

الصداقة، هذا المفهوم الذي يتردّد على الألسنة كما لو أنه حقيقة أبدية لا يَطالها التغيير، لطالما كان مرآة هشّة تعكس طبيعة البشر، وميولهم، ومقدار قدرتهم على البقاء مع الآخر أو التخلّي عنه عند أول منعطف. فكيف يمكن لنا أن نقيّم علاقتنا الحميمة مع أولئك الأصدقاء الذين يدّعون أنّهم يقدّرون الصداقة، يرفعونها شعاراً أخلاقياً، يضعونها على عرش الكلمات، ثمّ حين يأتي الامتحان العملي ينقلبون على أعقابهم، يسدّون أبوابهم، ويتركون من كانوا لهم سنداً في العراء؟

هل الصداقة، إذن، مجرّد حالة عابرة نختبرها في زمن الطفولة والشباب ثم نتركها خلفنا مثل لعبة بالية؟ أم أنّها التزام داخلي يتجاوز لحظة العاطفة العابرة ليصير قانوناً للروح؟ وماذا يمكن أن نطلق على صداقة تُبنى من طرف واحد، يمدّ صاحبها جسور الحب والصدق والوفاء، بينما الطرف الآخر يهدمها لبنةً لبنة، ويقذف بكل رسائل الود في سلّة المهملات؟

إنّ المشهد مؤلم حين نتخيّل صديقاً يكتب بخطّه المرتعش كلمات الامتنان والحنين، يستحضر مقاعد الدراسة الأولى، الطرق الترابية المؤدية إلى المدرسة، دفاتر ملوّنة وأصوات الطباشير على السبورة، ثمّ يرسلها بلهفة، فلا يجد سوى صمت بارد، أو أسوأ: رفض صريح، وجفاء مقصود.

ذلك الصديق الذي وُلدت الصداقة في قلبه كما تولد زهرة برّية على حافة نهر، ظلّ يحاول أن يستعيد أيام الطفولة المفعمة بالمغامرات الصغيرة، وساعات اللعب حتى الغروب، وضحكات المراهقة على درج المدرسة أو في المقهى الشعبي الصغير عند زاوية الحي. لكنه وجد نفسه في مواجهة جدار صلب من العزلة، جدار لم يبنه غريب أو عابر سبيل، بل بناه صديقه الأقرب، رفيق الدرب الذي صار فجأة يفضّل الصمت المطبق على أي كلمة، حتى ولو كانت كلمة سلام.

لكن، من هو هذا الصديق الذي قرّر أن يتخلّى عن العالم بأسره؟ من أي طينة صُنعت عزلته؟

لقد عُرف منذ صغره بشيء من الجدية الحازمة، وربما بالصرامة التي لا تخلو من قسوة. كان، في نظر كثيرين، شخصاً صعب المراس، قليل الاندماج، حادّ الطباع. وكم من أصدقاء تركوه لأنهم لم يحتملوا جفاءه أو تعاليه الذي يشبه البرود. بيد أنّه، في المقابل، كان مخلصاً على طريقته، لا يغدر بأحد، ولا يطعن من يثق به. كان يمتلك حاسّة غريبة في معرفة الناس، يقرأ وجوههم كأنها كتب مفتوحة، ويستشفّ من عيونهم أسراراً لا يريدون البوح بها.

ومع ذلك، اختار الانسحاب. بل الأصحّ: عشق الانسحاب. وجد في العزلة ملاذه الأوّل والأخير، وبذل من أجلها ما لم يبذله من أجل أي علاقة إنسانية. كان يجهد ليبتعد، ليغلق على نفسه الأبواب، ليعيش في صومعة فردية صنعها بيديه. حتى في عمله، حيث يحتل منصباً محترماً، ظلّ مائلاً إلى التوحّد والانطواء، كأنّ المنصب مجرّد قشرة اجتماعية لا علاقة لها بباطنه.

لقد تحوّل مع الوقت إلى إنسان آخر. تبرّأ من أهله، من معارفه، من أصدقائه. لم يعد يعترف بروابط الدم ولا بروابط الصداقة. اختار أن يبحث عن منفى إرادي، وجعل من بيته قلعة موصدة، لا يجرؤ أحد على طرق بابها. وإن طرقها طارق، بقيت مغلقة.

العزلة، في أحد وجوهها، قد تكون شكلاً من أشكال المقاومة. مقاومة التورّط في عالم متداعٍ، أو رفضاً لزيف العلاقات الإنسانية التي يكثر فيها الادّعاء ويقلّ فيها الصدق. ربما رأى صديق العزلة أن كل علاقة تنتهي حتماً بخيانة، أو على الأقل بخيبة. ولذا فضّل القطيعة التامّة على أن يعيش وهم التآخي والودّ الذي ينقلب فجأة إلى نقيضه.

غير أنّ الأمر لا يخلو من مرارة. فالعزلة التي تُختار عن وعي قد تتحوّل، مع مرور الزمن، إلى سجن داخلي. الجدران التي تبنيها لحماية نفسك من الآخرين، قد تتحوّل هي نفسها إلى قيود تحاصر روحك. وحين تكتشف أنّك وحدك، بلا صديق، بلا قريب، بلا رفيق، يصبح الصمت أشبه بصحراء ممتدة لا نهاية لها.

لعلّ المعضلة تكمن في المفارقة: هذا الصديق، رغم جفائه، لم يكن سيّئاً في جوهره. كان صادقاً، ناصحاً، نظراته دقيقة في قراءة الأمور. لم يعرف عنه الغدر أو الكذب. لكن الأيام حوّلته إلى نسخة متصلّبة من ذاته. صار يحمل أفكاراً خشبية، “معثّة”، لا تقبل التغيير. أفكار أشبه بخشب ميت لا حياة فيه. ووراء هذه الأفكار يُخفي الكثير من الصمت، الكثير من القسوة، الكثير من الجفاء.

إنّها حالة مرضية، أو لنقل: ظاهرة إنسانية تتكرّر عبر العصور. كم من مفكر وفيلسوف وشاعر اختار العزلة طريقاً له! بعضهم وجد فيها إلهاماً وإشراقاً، وبعضهم غرق في وحشة قاتلة. وربما ينتمي صديق العزلة إلى الفئة الثانية: أولئك الذين لا يعرفون كيف يحوّلون وحدتهم إلى إبداع، فيكتفون بالصمت الثقيل، ويغلقون على أنفسهم الأبواب.

من الناحية الاجتماعية، العزلة ليست مجرّد خيار فردي، بل هي أيضاً انعكاس لواقع متصدّع. فحين تغيب الثقة بين الناس، وحين تسود العلاقات المصلحية، يصبح الانكفاء شكلاً من أشكال النجاة. المجتمع نفسه، ببنيته المتهالكة، قد يدفع أفراده إلى التشرذم، إلى العيش في جزر معزولة. والمدن، بما تحمله من ضجيج واختناق، تزيد من شعور الإنسان بالاغتراب، فتدفعه للبحث عن زاوية نائية يتوارى فيها.

البيوت المغلقة ليست مجرد جدران، بل رموز لعالم داخلي مطبق. البيت الذي يرفض استقبال الضيوف يتحوّل إلى حصن دفاعي، إلى شاهد على انسحاب صاحبه من الحياة العامة. حتى النوافذ، في مثل هذه البيوت، تُغطّى بستائر سميكة تمنع الضوء والعيون معاً.

أما من الناحية النفسية، فالعزلة قد تكون ردّ فعل على جرح قديم لم يندمل. ربما عاش صديق العزلة خيبات متتالية جعلته يفقد ثقته بالناس. ربما كان ينتظر من صديقه، أو من أخيه، أو من أهله، شيئاً من الدعم أو الاحتواء، فلم يجد سوى الخذلان. هنا، يتحوّل القلب إلى قلعة مغلقة، والروح إلى كائن يجرّ نفسه بعيداً عن الآخرين كي لا يتعرّض للخذلان مرة أخرى.

لكن، ماذا عن الصديق الذي بقي مخلصاً له، رغم كل هذا الجفاء؟ ذلك الذي كتب الرسائل، استحضر الذكريات، حاول أن يرمّم جسور التواصل؟ أيّ معنى يبقى للصداقة حين تكون من طرف واحد فقط؟ هل يمكن أن نسمّيها صداقة، أم أنها تتحوّل إلى شكل من أشكال العشق الصامت، العشق الذي لا يجد صدى في قلب الآخر؟

 يبقى السؤال: ما ضرورة الحياة إذا كانت العلاقات الإنسانية تنهار بهذا الشكل؟ إذا كان الصديق الأقرب يتجاهلك، والأخ يُهاجر بعيداً، والمجتمع يزداد قسوة يوماً بعد يوم؟ ربما هنا تكمن مأساة “صديق العزلة”: أنه يعيش في عالم يفتقد الدفء، عالم لم يَعد يجد فيه سبباً كافياً لفتح الباب.

لكن، ورغم ذلك، يظلّ في القصة خيط رفيع من الأمل. فما دام هناك من يكتب عنه، ويستحضر ذكراه، ويحاول أن يفهم عزلته، فهذا يعني أن الصداقة لم تمت تماماً. ثمة شخص ما، في مكان ما، ما زال يراه جديراً بالحب والوفاء، حتى لو أصرّ هو على الجفاء.

هكذا، تتحوّل الحكاية من مجرّد قصة عن صديق منطوٍ إلى مرآة واسعة لحياتنا المعاصرة: حياتنا التي تتأرجح بين الرغبة في التواصل والرغبة في الانسحاب، بين الحاجة إلى الآخر والخوف منه، بين الحنين إلى الذكريات والخشية من تكرار الخيبة. وربما، في أعماقنا جميعاً، يسكن “صديق عزلة” صغير، ينتظر اللحظة المناسبة ليغلق بابه، أو ليفتحه من جديد.

عن عبد الكريم البليخ

عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاو ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.

شاهد أيضاً

غير صالح للحب

يتميز الفلاسفة بقدرتهم على إثارة الأسئلة، فالعقول المغلقة على البديهيات والمسلمات لا يمكنها أن تنتج …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *