آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ميت » لئلا ننسى بسام حجار الشاعر العابر سراً

لئلا ننسى بسام حجار الشاعر العابر سراً

مازن معروف | هذا العام أيضاً، لم نشعر بموت بسام حجار. مرت ذكراه كعدّاء أنيق، يحمل عصفور كناري في يده، لم ننتبه له لأننا بتنا الآن مقيمين في غرف عازلة للصوت. هذا الشاعر الكبير الذي رحل في 2009 لم تجمع أعماله الشعرية ولا النثرية حتى الآن ويعاني حالاً من الإجحاف والظلم على رغم تصدره المشهد الشعري اللبناني والعربي الجديد.

أما أحدث ما صدر له بعد رحيله فهو المختارات الشعرية المترجمة إلى الفرنسية بعنوان «سوف تحيا من بعدي» والتي نشرتها دار إكت سود ودارلوريان دي ليفر (ترجمة ناتالي بونتان)، وهي بدت اجمل تحية تكريمية له. حكاية بسام حجار الطويلة، لن يفلح أحد في سردها. فأنتَ لن تعثر عليه كما يجب إذا ما قررت البحث عنه. هو آخر الشعراء الذين آثروا الإندثار عظماً ولحماً، تاركين مخلفات جهازهم العصبي بيننا، تارة بصيغة قصيدة أو مقطع ساخر أو موقف أو ضحكة تحرص على ألا تخرّب ترتيب الهواء. وتارة بصيغة كتاب مترجم. حتى هذه المقالة التي تسعى إلى أن تكون استعادية، لا تفلح في اللحاق به.

إنها مجرد كتابة تتدحرج عمداً كي تغير مسارها فلا تصل إطلاقاً إلى بسام. موته، قد لا يكون أكثر ما آلمنا، بل ذكرى موته المتكررة.

في كل سنة، ينجو بسام حجار الميت في الإفلات منا نحن الأحياء. أو أنّ بسام حجار، قد يكون نجح أخيراً في أن يموّه نفسه بالموت. بعد أن آثر طوال حياته تمويه الشاعر الذي فيه، تارة بشخصية المترجم، وبشخصية كاتب المقالة تارة أخرى. كان موته «الكاموفلاج» الأكثر دقة بين كل محاولات بسام حجار للانسحاب. هو الذي ظل طوال حياته يموّه صوته الخافت بقصائد بقيت تحتفظ بمناخ داخلي، مغلق وخانق، مناخ البيت والغرفة والعزلة والوحدة والفنائيات بكل ألوانها ومستوياتها. كان يغلق الحيز الجغرافي والمكاني لقصيدته، كي يتيح لنَفَسِه التمدد في مكونات هذا الحيز، ولكي يصبح جزءاً منه، باللغة. اللغة التي تصبح معه زاوية أو مزهرية أو نافذة أو جداراً أو باباً موصداً. والتي تدافع عن نفسها بشراسة إذا ما حاولت الاقتراب منها. أحياناً، كان عليك إذا ما أردتَ قراءته، أن تضع كباية ماء إلى جانبك. والأرجح أن تفعل ذلك أثناء النهار إذا كنت موسوماً بالخوف والتوهمات والوساوس. أعطيك مثالاً: إن كنت شخصاً يحب العصافير ويُكلّم الموت، فلا تقرأ كتابه «حكاية الرجل الذي أحب الكناري».

من الأفضل أن تعيد الكتاب إلى الورّاق الماكر، قائلاً له «صدقني، من الأفضل ألا أكمل قراءة هذا الكتاب». لقد طوّر بسام حجار، وعلى غفلة منا، مهجعه الخاص، لا لشيء إلا ليموت أليفاً فيه. وموته نموذج لهذا التقاطع بين عزلة الشاعر عن العالم البراني، وعالم قصيدته المحدود العناصر، وهو أحد أسهل الالتباسات حول شعر حجار، كونه لم يحد عن ذلك الكون الشعري المؤطر بالهواجس والسوداويات والنظرة الرمادية إلى الحياة، والمفتوحة دوماً على باب الغياب والخشية منه وتفعيل هذا الغياب مجازياً وصورياً بالحوار معه. تعمّد أن يلعب شخصية الـ «ثانوي» أو أنها الذريعة الأمثل لكي ينأى بنفسه عن الشلليات ومثرثري المقاهي ومرتبي الصفقات الثقافية. أوجد الباب الذي سيعبر منه «إلى الجوار المخيف» (على حد قول بسام حجار نفسه).

كأنه يسير في نوم اللغة، يلكزها لتصحو، من دون أن يجاهر بإثارته نقاشاً أو طرحه سؤالاً أو إحداثه ريبةً. حمى صوته الشعري وولعه بإغناء المكتبة العربية، وبأن يتخذ لنفسه موقعاً منعزلاً، لا هامشياً. كما لو أنه أول من قرأ حالنا اليوم. واكتفى بالإقامة في مدينة شحيحة ثقافياً إذا صح القول، متزمتة، وكتب شعراً لا تليق قراءته بصوت عال. ثم أطلق ترجماته ككشاش حمام يطيّر سربه مدركاً أن سارقاً قليل الموهبة قد يرفع عصاه بخرقة النايلون المربوطة بها، ويبادر إلى إنزال بعض من تلك الحمائم إلى شبكته.

تكلّم معنا عبر أغوتا كريستوف، سالينجر ويوكو أوغاوا. إميلي نورثومب، كاواباتا، وجان أشينوز. بورخيس وإيتالو كالفينو. بوهوميل هرابال والطاهر بن جلون. وغيرهم. هل كان صاحب طريقة؟ إذا كان لا بد من الإجابة، فالإجابة تحتمل أن تكون «نعم، صاحب طريقة في جعلنا نشعر بالألم من داخل الظل». وهكذا كان حجار، رجلاً مقيماً في ظله. لم يكن يراه إلا أشخاص قليلون. وعندما توفي، هرع كثر ممن فعلوا كل ما في وسعهم لإبعاده من محيطهم الصحافي والثقافي، إلى طاولاتهم لكتابة رثاء فيه.

وإذا علمنا بتخاطر ميتافيزيقي ما، أن بسام حجار بصق عليهم من قبره، فمن الافضل ألا نستغرب. احتفائيات هؤلاء بموته، كانت أشبه بالشمع الأحمر الموضوع على باب حديقة تهز الأشباح سورها كل ليلة ليجدها القراء في الصباح التالي حديقة مفتوحة من كل الجوانب. فيضعون في قلبها، إذا ما صدف وتذكروا موته، طاولته الشخصية وأغراضه التي «لن تعرف أبدا أنه رحل».

الحياة

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …