آخر المقالات
الرئيسية » نصـوص » «الذكرى» قصيدة للشاعر الفرنسي الراحل إيڤ بونّفوا

«الذكرى» قصيدة للشاعر الفرنسي الراحل إيڤ بونّفوا

ترجمة أسامة أسعد |

|
هذه الذكرى تسكُنُني، تدورها الريح هكذا فجأةً،
هناك، على البيت المقفل.
إنه صوت شراع في العالم،
كأنّ قماش اللون ، للتوِّ تمزّقَ حتى عمق الأشياء.
الذكرى تذهب ولكنها تعود،
رجل وامرأة مقنّعان،
يحاولان جرّ قاربٍ كبير جداً إلى الماء.
الريح تهوي بالشراع على حركاتهما،
تشبُّ النار فيه، المياه سوداء،
ما نفع مواهبكِ، أيتها الذكرى،
إلّا معاودة الحلم القديم،
الاعتقادُ بأنني أستيقظ؟
الليل ساكنٌ،
ضؤه يجري كالجدول فوق الأمواه،
وشاحُ النجوم بالكاد يرتعشُ
في النسيم الذي يهبُّ على العوالم.
قاربُ كل شيء، كل حياة ينام،
في كتلة ظلام الأرض،
والبيت يتنفّسُ، بلا صوتٍ،
العصفور الذي لا نعرف اسمه،
بالكاد يطلقُ في الوادي، هازئاً
ولكن بشيء من العطف، نوتَتَيْهِ الغامضتين
قريباً جداً منّا.
أنهضُ، أقتربُ مرةً أخرى،
من النافذة التي تشرفُ على الأرض
التي أحببتُ.
أفراحٌ، كمجدّفٍ في البعيد، بالكاد يتحرك
على الصفحة المشعة، وفي الأبعد،
دون أي صوت أرضيًّ، تحترق مشاعلُ
الجبال والأنهار والأودية.
أفراحٌ، ولا نعرف إن كانت فينا
مثل صخب تافه وبريق حلم،
هذه القاعات المتتالية والموائد
الزاخرة بالفاكهة والأحجار والزهور
أم كانت ما أراده إلهٌ، لإقامة حفلٍ،
بما أننا كنا نقيم راضين،
صيفاً كاملاً في بيت طفولته.
أفراحٌ، والزمن أتى خلسةً، كفيضان نهرٍ،
ليلاً، يدخل على الحلم، يجرح الضفة،
ويبعثر الصور الأشد وضوحاً في الوحل.
لا أريد أن أعرف السؤال الذي يصعد
من أرض السلام هذه، أبتعدُ،
أجتاز غرف الطابق، حيث ينام
جزء كامل مِمّا كنتُ،
أهبطُ في ليل الأقواس السفلية
نحو نارٍ هائمةٍ في الكنيسة،
أنحني عليها، تنتفض مثل نائمٍ
نهزّه من الكتف، تنتصب قليلاً
رافعةً نحوي وجها من جمر.
كلا، عودي إلى نومك، أيتها النار الأبدية،
استسلمي لحلمكِ، بما أنك أنت أيضاً
تشربين من الكأس الذهبية السريعة.
لم تحن ساعة حمل المشعل
في المرآة التي تكلمنا في العتمةِ،
عليّ أن أبقى وحيداً.
أفتح الباب،
الذي يؤدي إلى أشجار اللوز الساكنة،
يا لهدوء هذا الليل الذي يُلبِسُها القمرَ.
وأمشي، على العشب البارد.
أيتها الأرض، أيتها الأرض،
الراضيةُ، أحقّاً، أننا قد عشنا
الساعة التي فيها ، من غصن إلى غصن،
تنطفىء مصابيح الزينة مساء العيد؟
ولا نعلمُ،
وحيدين، من جديد، في الليل المشرف على الانتهاء،
إن كنّا نرغب أن يطلع الفجر،
لشدة تعلُّقِ القلب بهذي الأصوات التي تغني هناك،
ثانيةً، ثم تختفي وهي تبتعد على الدروب الرملية.
أذهبُ،
محاذياً البيت نحو المنخفض،
أرى ملامح الأشياء البسيطة،
كدربٍ ينفتح تحت النجمة التي تحضّرُ النهارَ.
أيتها الأرض،
أحقيقيٌ،
كلّ هذا النسغ في شجرة اللوز إبان شهر الزهور،
كلّ هذه الأنوار في السماء،
كلّ هذه الأشعة على زجاج النوافذ
وفي المرآة مطلع الفجر،
كلّ هذا الجهل في حياتنا وكلّ هذه الآمال،
كلّ هذه الرغبة فيكِ، أيتها الأرض الكاملة الانسجام،
كلّها، لم تُخلَق لكي تنضج مثل ثمرة
تنفصل فرِحةً عن الغصن،
عن الأصل، مذاقاً صافيا؟
أذهبُ،
يخيّلُ لي أن أحداً يمشي بالقرب مني،
يودّ الابتسام بالرغم من صمته،
مثل صبيةٍ حافيةٍ على العشب،
ترافقُ لوهلةٍ هذا الذي يرحلُ،
يتوقفُ، ينظرُ إليها،
كم يودّ أن يأخذ بين يديه،
هذا الوجه، الذي هو الأرضُ عينُها.
وداعاً، يقول،
أيها الحضور الذي لم يكن إلّا إحساساً،
بالرغم من قربه كلّ هذه السنين،
وداعاً، يا صورةً لا تُسْبَرُ،
أوهمَتْنا أنها الحقيقة وقد قيلت أخيراً.
يقين، حيث كل شيء لم يكن إلّا شكّاً،
وبالرغم من خرافيتها، إنها كلمة متأججة حقيقية.
وداعاً، سوف لن نراكِ تأتين إلينا
حاملةً قربان السماء وأوراق يابسة.
سوف لن نراكِ تقرّبين من الموقد خدّك الإلهي.
وداعاً، لم يكن قدرنا واحد،
عليك أن تتبعي هذا الدرب، ونحن الآخر،
وبينهما تكبر سماكة الوادي الذي يطبقُ عليه المجهول
بصرخة حادة لطير جارح.
وداعاً، لقد مسّتْكِ شفاه أخرى،
لا تملكُ الضفاف ماء النهر،
إلّا بالهدير الواضح الكبير.
أحْسُدُ إله المساء الذي سينحني
على شيخوخة نوركِ.
أيتها الأرض، إن ما يسمونه الشِّعْرُ،
قد اشتهاكِ كثيراً في هذا القَرن،
دون أن يأخذ أبداً منكِ
بَرَكةَ لفتة الحب!
لمسَها بيديه، بشفتيه،
يمسكُها، تبتسمُ، ينظرُ إليها،
في عينيها التي تمّحي في البريق.
والآن، أخيراً، ينكفىءُ،
أراهُ وهو يبتعدُ في الليل.
وداعاً،
كلاّ، إنها ليست الكلمة التي أعرف قولها.
وأحلامي محشورة، بعضها ببعض،
كخروج النعاج أول الضباب،
تسحق بأظلافها مسالك الدروب القديمة.
أستيقظُ، ليلةً بعد ليلةٍ في البيت الخاوي،
ويخيّلُ لي أن فيه خطوة لا زالت تسبِقني.
أَخرُجُ،
أستغربُ أن المصباح لا زال مضاءً،
أمام الإسطبل ،في هذا المكان المهجور من الجميع.
أَعْدو خلف البيت، لأن نداء الراعي
في الزمن الخالي، لا زال مدوّياً.
أسمعُ النباح الذي يسبق النهار،
أرى النجمة تشرب عند الفجر
بين القطعان التي كانت،
والناي لا زال يئنُّ
في دخان الأشياء الشفيفة.

المترجم كاتب سوري مُقيم في فرنسا / خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …