آخر المقالات
الرئيسية » رصاص حي » أوفيليا: هل أشبه السوريات يا هاملت؟

أوفيليا: هل أشبه السوريات يا هاملت؟

د.  علي محمد سليمان |

لم يعد لهذه البلاد سوى أن تكون خريطة خورخي لويس بورخيس، فالغرقى وحدهم يرسمون الخرائط والمخيلة وحدها تبصر في هذا العماء. أو لعلها الذاكرة؟ الذاكرة ما يشيد لنا في هذا التيه مسرحاً لنرقص عليه، نحن الكائنات المفجوعة ببلاد أحرقتها حروب الخرائط والسرديات والقتلة والطغاة والهويات. ذاكرة محمومة لا تشبه سوى الخريطة العملاقة في قصة بورخيس. لم يعد أمامنا سوى خريطة بورخيس، خريطة بحجم البلاد نحملها معنا لنستوطنها أينما رحلنا. خريطة تطابق أصلها الجغرافي حجماً وشكلاً، بديل طبوغرافي واضح لمتاهات الوطن. ذاكرتنا خريطة بورخيس، محمومة وشاسعة ومنكوبة بشعرية الفقدان، تستحوذ على المكان والزمان المفقودين وتكون بديلاً للتاريخ وللجغرافيا. الذاكرة، وحدها الذاكرة، خريطتنا الأخيرة وكل ما تبقى لنا من عدالة.

في جرح الخريطة الشمالي كنت قد قلت لها أن للضوء رائحة. لم تصدق فسألتها وأنا أهجس بأمداء بليلة تمتد شرق المتوسط إلى تخوم الصحراء: ماذا تفعل الأنهار في الليل؟ رمقتني المرأة الغريقة بتوجس وهي تسجي جسد الماء المطعون ثم دثرتني برداء من الجمر وقالت: الفرات سريري، نم هنا، فأنا أشتهي طرائد الضوء.

في النهر كان الماء بارداً ومعتماً إلا من إضاءات خاطفة تقترب وتتلألأ ثم تبتعد ويخبو نورها في الامتدادات المجهولة لعتمة الماء. رحت وأنا أوغل في أمداء الجسد السائل أرقب تلك الإضاءات الملونة تقترب مني وتسبح حولي ثم تبتعد ببطء حتى تتلاشى أضواؤها كذرات ناعمة من النور تشع في أقاصي المسافات الرجراجة ثم تخبو وتغيب. كانت في بدايات التجلي تلوح في الأفق الكتيم كاختلاجات تومض في أطراف الجسد المائي ثم تسري كرعشات تتوالى وتتصاعد في حركة محمومة باتجاه التشكل في هيئة مخلوقات ضوئية. كانت عتبات التشكل تلك تمتد في إيقاعات مضطربة، وكان الماء في ذروة تلك الإيقاعات يموج بتيارات دافئة تشتد قوتها وصولاً إلى لحظة التخلق. كانت مخلوقات ملونة تشع بقوة وتحدث تصدعات وانكسارات حادة في جسد الظلام السائل. تسبح المخلوقات وتقترب فأتبين أنها أسماك ملونة، حمراء، زرقاء، بيضاء، صفراء وأرجوانية.

هكذا غرقت أوفيليا. كان عليها في الماء أن تستغرق في الهذيان الضوئي زمناً يمتد ولا يتحرك، ينوس بين طورين للجسد المعتم، طور السكينة الأسود وطور الاختلاجات الضوئية. وحده هاملت النازح عن جسد الخريطة كان يسأل: من قال أن الأسود ملك الألوان؟ وما الأبيض؟ هل هو تلفها أم خديعتها؟ أيها الأسود، هل أنت لون أم غياب، أم أنت مرآة الهشاشة وتمام اجتيازها؟ هل أنت جثة الضوء؟ هل أنت صخرته السيزيفية أم بدد المسافة؟ أيها الأسود، هل أنت ذريعة هذا الماء؟ هل أنت انتحار الدهشة في هذا العبور من تفاصيل المكان إلى بدد الجهات؟

في زمن آخر سبق مذبحة الخرائط كان شكسبير على الضفة الأخرى من نهر التايمز يلقن الجمهور الإليزابيثي وصفة من مطبخ الشرق البعيد تفوح منها رائحة توابل حلب قبل 500 سنة من تدميرها في حرب ستضيع أسماؤها الكثيرة بعد انتحار المخيلة لينجو بخفة مدهشة اسم واحد، الحرب السورية! كانت فرجة، وكان الجميع يعلم أين سيجد عطيل منديل ديدمونة، لكنهم كانوا على تلك الضفة يتلصصون على حلب من نوافذ الجزيرة الكبيرة التي فتحتها الملكة إليزابيث على العالم البعيد. حلب غموض لا بد منه لوصفة السحر، هكذا فكر شكسبير على ضفة التايمز وهو يجمع الأخبار من الرحالة الثملين الذين كانوا بعد عودتهم من أسفارهم البعيدة يحتسون الجعة بشراهة ويروون الحكايات في حانات تعج بالفضوليين ويرددون بين كأس وأخرى: عجيب، كيف تجتمع كل تلك الأقوام والأديان والثقافات في مدينة واحدة؟!

في جرح آخر من الخريطة بحثت ربيبة الماء على ضفة بردى عن أطفال يفترشون عشب الحدائق في الليل ثم خبأت كمانها تحت معطفي الشتوي الطويل عندما فاجأتنا على طرق الضواحي المقنوصة ذئاب تعزف الناي. قلت لها يوجعني الماء هنا وصواب الخرافة. لا دونكيشوت سيجتاز الحواجز بين طواحين الموت ولا شهرزاد ستنظف ولائم السرد من السواطير والدروب في خريطتي مقفرة، فلا بد لي من الدمشقيات لأبصر. أتعلمين ماذا تعني عبارة لحظة دمشقية Damascene Moment في قاموس أكسفورد؟ إنها لحظة البصيرة التي تؤدي إلى تغيير في الرؤيا والوعي. رمقتني المرأة ثانية بتوجس ثم قادتني من يدي إلى فسحة في بساتين الغوطة. هناك حيث تناهت إلينا في العتمة أصوات انفجارات ورصاص تذوقت كتفي اليسرى بخوف ثم بكت وقالت: أنت مالح يا رجل، ماذا جرى لك؟! في أكسفورد نسيت ما كان من أمر الملح والذئاب وقدتها من يدها إلى ضفة التايمز ترى أين رأى ماكبث الساحرات؟! سألتني وهي تجول بنظرها في أنحاء السهل المعشب الفسيح. ربما في مكان ما هنا؟ قلت وأنا أرتجف برداً: الساحرات كن داخل ماكبث. كن رغباته وهواجسه… ضحكت المرأة، وبعد فترة من الصمت قالت: أتعلم، أوفيليا تشبه السوريات كثيراً. كان لا بد من سفر هاملت لتصاب أوفيليا بالجنون. وكان لا بد من عودته ليحدث الشيء الوحيد الذي يمكن أن يدفعه لإعلان حبه لها، أن يرى جثتها في القبر.

أيتها المطارات، يا مقابر الحكايات، كم من أوفيليا قتلنا؟! همست ونحن ندلف إلى فناء كلية سانت جون. لم تسمعني فقلت: سيدفؤنا الشاي الساخن. تعالي، مكتبي قريب من هنا. هذه كلية يوحنا المعمدان، وهنا يسمونه سانت جون.

جدتك التي كانت تأخذك إلى قبره في دمشق لتطعمي الحمام الحنطة وتبللي ثيابك بماء البحرة في باحة الجامع الأموي ثم تأكلين البوظة المعجونة بالفستق الحلبي في أزقة السوق الذي ينفتح سقفه على السماء على عتبة معبد حدد الآرامي لم تكن تعلم أن لعنة الحكايات ستطارد أحفادها إلى آخر مونولوج يلقيه هاملت على موظفي الهجرة والجوازات في مطارات العالم.

لم تكن جدتك تعلم رغم النبوءات الكثيرة.

لا تحدث الجرائم دون نبوءات. انظري، هنا تعلم شكسبير كيف يمسرح التاريخ لأولئك البشر الذين كانوا يتحلقون حول الرحالة والشعراء في الحانات ليتلصصوا في أخبارهم وخيالاتهم على العالم البعيد. الجريمة هي الشكل الذي يحدث به التاريخ وكان على الجمهور أن يصدق نبوءات العواصف والساحرات والمعارك والأشباح على خشبة مسرح فقيرة. أتعلمين أن الفارق بين التراجيديا والكوميديا هش وقد يكون مجرد كلمة واحدة؟! كان يكفي ريتشارد الثالث لكي يتحول إلى مهرج كلمة زائدة واحدة فقط. ماذا لو أنه قال نصف مملكتي بحصان؟!

كاتب وأكاديمي سوري – اكسفورد بريطانيا | خاصة مجلة قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

الكتابة ضد السجن والرصاص.. من طه حسين إلى بختي بن عودة

بقدر ما كان القرن العشرين قرن النهضة الأدبية والفكرية والدينية في حياتنا العربية الحديثة، ازدهرت …