آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ميت » قصة قصيرة: تحليل الشخصية عن طريق خط اليد..!

قصة قصيرة: تحليل الشخصية عن طريق خط اليد..!

عزيز نيسين  |  

جرت الحادثة عام 1944 ، كنت في ذلك الوقت أعمل في الجريدة، بأجر شهري قدره سبعون ليرة. ومن الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً كمراسل في التعليم والاقتصاد. بعد الظهر كنت أعمل كمراسل في قصر العدل… وعدا ذلك، كنت ملزماً بأن أكتب يومياً بحثاً أو تحقيقاً. وفي المساء كان علي كتابة حكاية يومية  كما كنت اكتب يوميا فكرة جديدة. وفي الليل استمع الى الاذاعات واتلقى اخبار العاصمة انقرة بالهاتف.اما عندما يكون هناك ترجمة طلبها مني صاحب الجريدة ، فكنت اقوم بذلك بعد الساعة الثانية عشر ، اجمع هذه الاعمال مقابل سبعين ليرة شهريا. سبعون ليرة وهو مبلغ لا يستطيع احد الحصول عليه بسهولة في ذلك الزمان.. وكان يطلب من كل شخص يود العمل في الصحافة ، ان يعمل شهرين كمتدرب بدون اجر ولكنهم كانوا يمددون هذه المدة الى سنتين.

بعد انتهاء شهرين من التدريب دخلت غرفة صاحب الجريدة ووجهي احمر من الخجل لافهم وضعي. فقال لي:

– انت امل بالنسبة لي. وستكون صحفيا ناجحا ، سامنحك راتبا شهريا قدر خمسون ليرة ، ولكن بشرط ان تقوم بتصميم الكلمات المتقاطعة اضافة الى عملك.

هذه «الان خمسون ليرة شهريا»ومرت خمسة اشهر. بعد خمسة اشهر راجعته فزاد راتبي خمس ليرات. كان يزيد راتبي خمس ليرات كل ثلاثة اشهر حتى اصبح راتبي سبعين ليرة.

راجعته مرة اخرى ، فانتصب واقفا امامي قال لي:

– عن اية زيادة تتكلم، لقد عملنا منك كاتبا من الدرجة الاولى ، ولزاما عليك ان تدفع انت لنا اجرا.

خجلت.. ولكن صاحب الجريدة كان يضعني في مواقف مخجلة اكثر ثم قال لي:

– انظر جيدا ، اذا كنت تستطيع العمل كمحلل للشخصية من خلال الخط ، فانني سامنحك زيادة شهرية قدرها خمس ليرات.

– لا يا سيدي ، لا استطيع ، فهذا الموضوع لا افهم فيه ابدا.

– لا انك تستطيع ان تقوم بهذا العمل.

اصبح راتبي الشهري خمسا وسبعين ليرة على ان اقوم بتحليل شخصيات القراء من خلال الخط. قامت الصحيفة بنشر الاعلان التالي في صفحتها الاولى.

«من اجل فائدة قرائنا الاعزاء ، قمنا بتضحية كبيرة. فلقد دعونا الخبير الالماني هرفان رود شميدت من المانيا الى بلادنا ، وهو من كبار الفلاسفة في العالم في تحليل الشخصية من خلال الخط ، ارسلوا لنا ايها الاعزاء سطرا واحدا مكتوبا بخط يدكم ، ليقوم الدكتور هرفون رود شميدت بتحليل شخصية صاحب الخط. وسوف يتم نشر التحليل على صفحات الجريدة». لا بد انكم عرفتم من هو اكبر فيلسوف في العالم. انا الدكتور هرفون رود شميدت. لقد اصبحت بروفسورا من اجل خمس ليرات في الشهر.

لم اكن اعلم ان هناك الكثير من الناس ممن يودون معرفة شخصياتهم،.. كانت ترد للجريدة مئات الرسائل يوميا.. فازدادت مبيعاتها. لقد علمني صاحب الجريدة مفهوم تحليل الشخصية على النحو التالي:

– كل شخص يظن ان لديه عادات واشياء حسنة. اكتب عن عدم النجاح وقلة الحظ..،

بالنسبة لي كنت اقف عند المحاكمات العامة ، مثلا: كنت اكتب كنموذج «انت سيدة مرتبة ودقيقة. ولكن في بعض الاحيان تصبحين غير ذلك ، انت تستحقين كل سعادة. روحك نظيفة ، وانت انسانة حقا». كان كل ما اكتبه لا يمكن ان يسيء الى احد.

ولكنني لا انسى ذلك اليوم الذي ارسل لنا فيه احد القراء خمس صفحات كتبها بخط يده ، بدلا من السطر الواحد الذي كنا قد اعلنا عنه. فقمت بتحليل شخصيته على الشكل التالي:

«انت تحب الكلام كثيرا ، ولكنك تعرف كيف تدعو الاخرين بلطف للاستماع الى احاديثك ، انت تقف عند كلمتك في عملك. ستكون ناجحا في حياتك من خلال حديثك».

مساء ذلك اليوم ظهرت فيه هذه الكتابة في الجريدة دخل صاحب الجريدة الى غرفتي وهو يتضايق وقال لي:

– ماذا كتبت انت بحق شخص اسمه «عثمان يوزري»

– لا ادري.. لننظر الى الجريدة.

قرأنا الجريدة ، كانت نفس الكتابة التي حدثتكم عنها. فقال لي صاحب الجريدة:

– لقد حضر هذا الشخص الى الجريدة واصر على رؤية الخبير في الخطوط.

– ما العمل الان..؟

– لا شيء .. انت ستصبح المانيا.. وانا سأقوم بالترجمة.

– هل تتكلم الالمانية؟

– لا ، لا اعرف الفرنسية.

تراكضوا يمينا وشمالا ووجدوا شخصا يعرف الالمانية.. جيد ولكن كيف لي انا ان اعطي اجوبة في الالمانية.

دخل الرجل الى الغرفة ونظر الى صاحب الجريدة والى الشخص الذي سيقوم بالترجمة من الفرنسية الى الالمانية وسأل.

– من هو البروفسور يا سيدي:

اشاروا الي. ولكن الرجل نظر الي في ريبة لانني لا اشبه الالماني مطلقا بل اشبه اليابانيين.

– من فضلك بلغ البروفسور الدكتور هرفون رودر شميدت اعجابي الشديد. فلقد اصاب وبشكل مدهش تحليل شخصيتي. فانا محام ولقد عرف الدكتور انني فنان في الكلام.

قام صاحب الجريدة بترجمة هذا الكلام من اللغة التركية الى الفرنسية. وترجم الزميل الكلام الى الالمانية. وجاء دوري لاعطي الاجابة بالالمانية.انا لا اعرف كلمة واحدة في الالمانية. فقلت لنفسي لاصافح هذا المحامي بدلا من ان اشكره. فقلت بلهجة المانية.

– ياه. شون ، زرشون. وصافحته.

في هذه الاثناء دخل رئيس المنضدين واتجه رأسا الى السؤال قائلا:

– يا حسن بك ، المطبعة تنتظر وانت لم تعطنا تحليل الشخصية حتى الان.

التفت الى الوراء ، فصرف صاحب الجريدة رئيس المنضدين. ولكن غيمة من الشكوك كانت تبدو في نظرات المحامي الذي بادر بالكلام قائلا: – لي رجاء من الدكتور المحترم. في نيتي الزواج من فتاة فهل يستطيع الدكتور ان يحلل لي شخصيتها من خلال ما كتبته لي من رسائل. وعلى ضوء ما سيقوله الدكتور ساقرر ما اذا كنت سأتزوجها ام لا.

ترجم صاحب الجريدة الكلام الى الفرنسية وقام المترجم بترجمتها الى الالمانية. واسقط في يدي فنظرت في عيني صاحب الجريدة الذي اشار الي بعينه بمعنى «قل اي شيء» بدأت برمي الكلام.

– «داس اينن لوغان اوبد زيهته شلاهين. مورغر دره ناه فيفوزن ماينه».

نقل المترجم هذا الحديث الملفق الى الفرنسية ونقل صاحب الجريدة الكلام الى التركية على الشكل التالي:

– البروفسور المحترم يقول «طبعا نستطيع القيام بتحليل الشخصية حالا».

هذه المرة انبرى المحامي قائلا: انا افهم قليلا الالمانية. ولكني لم افهم شيئا مما قاله البروفسور. فرد صاحب الجريدة قائلا:

– البروفسور من سكان غرب المانيا فحتى الالمان لا يفهمون لهجته الا بصعوبة.

في ذلك اليوم جرى كل شيء معاكسا ، فقد دخل القهوجي وسألني قائلا:

– حسن بك هل الشاي لك.

اخذ صاحب الجريدة الشاي وخرج القهوجي. ولكن المحامي اصبح مليئا بالشك والظنون. في هذه الاثناء انفجر الوضع تماما عندما دخل بقال الحارة الذي كان يمر عدة مرات يوميا وكنت اتهرب منه وبدأ يصيح باعلى صوته وسط هذا الجمع قائلا:

– شكرا يا حسن بك لاننا التقينا. والله عيب ، فانا امر عليك في اليوم عشر مرات وانت تقول اليوم ، غدا.. لماذا تكذب علي؟ هل ارتكبنا خطأ عندما بعناك بالدين؟

فقال صاحب الجريدة للبقال:

– ماذا تريد ايها اليسد هذا الرجل لا يفهم اللغة التركية.

– ماذا تقول؟ لا يفهم التركية؟ الله الله يتكلمها كالبلبل عندما يشتري الفاصوليا والبصل.هل انعقد لسانه عندما رآني. والتفت الي قائلا:

– انظر يا حسن بك انا لا افهم الكلام اريد فلوسي.

فاجبته:

– اه بن كاينه. آه ذا يتونع ذين.

نظر البقال في وجهي وهو منهدش وقال لي:

– لقد جننت انت.

– لي فول اشو كان بين زولا مي هان.

لم يعد المترجم يستطيع الاحتمال فانفجر ضاحكا. اما المحامي فقد بدت على وجهه الدهشة ، وهو ينظر الي والى صاحب الجريدة والبقال.

التفت صاحب الجريدة الى البقال وقال له:

– يا اخي انت تشبه على هذا الشخص.. هذا الرجل بروفسور الماني.

– بروفسور الماني. معنى ذلك ان هذا الرجل بدأ بالنصب والاحتيال.

لقد خدعكم يا سيدي بادعائه بانه بروفسور الماني. انظر الى سحنته؟ هل رأيت في حياتك رجلا المانيا بهيئة شخص ياباني.

كنت متجهم الوجه وكأنني لا ادري مايدور حولي فبدأت بالسؤال.

– ذي كونير.قماردين شيفتانغير زوهنه.

– ابعد المحامي المترجم والتفت الي قائلا:

– لماذا احمرّ وجهك.

في هذه اللحظة نسيت انني بروفسور الماني فقلت له:

– لا ادري.

فالتف الي المحامي وقال:

– تفوه.. وخرج.

كذلك تفل البقال كالمحامي وخرج. بقيت انا وصاحب الجريدة. اخرجت المنديل من جيبي وبدأت امسح وجهي وعيني. فقال لي صاحب الجريدة:

– يا حيف عليك. لم تنجح في العمل الذي كلفتك به وتبدلت ملامح وجهك وعينيك. سأقوم بحسم عشر ليرات من راتبك الشهري… تفوه عليك.. وخرج ايضا.!

كاتب وقاص تركي راحل | موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …