الرئيسية » رصاص ميت » بيـــونة.. وداع صوت جزائري حقيقي

بيـــونة.. وداع صوت جزائري حقيقي

أكتب عن رحيل بيونة ليس مجرد خبر عن فنانة، بل وداع صوت جزائري حقيقي جعل من الفن مرآة للواقع والحياة الشعبية في الجزائر.

لم تكن تبحث عن دور مثالي ولا عن صورة منمّقة تُرضي الجميع، بل حملت على كتفيها وجهًا غير آبه من الجزائر؛ الوجه الحقيقي، الشعبي، الساخر، المشاغب، الذي لا يتجمّل ولا يطلب الإذن ليقول ما يريد.

وجهٌ حزين أيضاً، فكل ما قالته أو لمّحت إليه، وكل ما عبّرت عنه باللحن أو الصوت أو الصرخة، كان حزنًا جزائريًا يعرفه الناس. ولهذا دخلت عليهم بجميع حالاتها، صاخبة، متمردة، طائشة، حنونة. دخلت عليهم تاريخا دراميا وحضورا فكاهيا وتجليات من سينما العالم، في بناءات أتقنتها جسدا وصوتا وتجسيدًا للشخوص.

كانت بيونة في حاجة إلى أن تمضي، فبدت أمامها جميع الأدوار سهلة طيّعة، ولم تكن تعبئ لأن كل شيء أمامها كان حياة، وكانت أيّامها تولد من حاجة الفن إليها. خرجت من خارج كل المدارس الفنية، ومن خارج الكلاسيكيات المتوارثة في الأداء والدراما والسينما في الجزائر، فتعالت بميز نادر عن امرأة نادرة. وفي حضن الشارع الذي يصنع شخصيته بنفسه، دخلت الفن وهي تعرف أنّ موهبتها أكبر من القيود، وأن قدرها أوسع من أيّ سقف. كانت تدرك أن صوتها سيشقّ طريقه وإن لم يُفتح له الباب؛ فقد دخلت من أول ضحكة، ومن أول سخرية جارحة لمن يترصدون. وبين الغناء والرقص والمسرح والتلفزيون والسينما، صنعت لنفسها مسارا لا يشبه إلا نفسها، فصنعت باهية بوزار بيونة الخالدة.

منذ السبعينيات، تحوّلت سريعًا إلى وجه مألوف في البيوت، وصوت مألوف في الشوارع. سخريةٌ عابرةٌ للأقدار، تشطيطٌ وجرأة، وانفعالات حادة لشخصيات ناقمة، سريعة الالتهاب العاطفي، وبحنان إنساني لفت انتباه كل من اكتشف هذا الوجه غير الآبه الذي يكشف الحقيقة دون تجميل. كانت تمتلك تلك الجرأة التي تتعفف عن الفضيحة، لأنها جرأة من معدن الصراحة النادرة، صراحة المرأة الجزائرية التي تقول ما يجب قوله حتى لو أغضب، وتصرخ بما يجب الصراخ به حتى لو أزعج، وتخوض ما يجب خوضه حتى لو كان متفجرا.

هذه كلها صنائع علاقتها الجدلية مع الجمهور: نصف أحبّها لأنها تشبهه، ونصف قاومها لأنها لا تشبه الصورة التي يريدها للمرأة، وبين هذين النصفين ظلّ الجميع يتلصصون وجهها، هويتها، وما تبديه شخوصها الإبداعية في تسام أو هبوط. لكنها لم تكن يومًا تجسيدا للهوية النموذجية، ولم تطمح إلى تلك الهوية المدجّنة التي يحبها الرسميون. لقد صنعت لنفسها هوية أعمق، الهوية الشعبية الحية، المعاصرة، التواقة إلى ثراء الجزائري، فسافرت عبر محطّات اللسان الدارج الحار، اللسان العاصمي والمزاج الساخر، لم تكن فقيرة، بل كانت بفطنة غير محدودة، وبقدرة عجيبة على تحويل الألم إلى نكتة، والدمار إلى حياة، والظلام إلى فن. كانت انعكاسًا لجزائر المدن والأحياء، لنسائها المكافحات، لنساء لا يجدن الوقت للتمثيل لأنهن منشغلات بمواجهة الحياة، ولم تكن صوت الشارع الأنثوي فقط، بل كانت امرأة اختارت أن تمضي ضد التيار، وتشق لنفسها مكانًا في فضاء فني متزمّت، محافظ، بلا رحمة، حيث يُراد للفنانة أن تكون إما ملاكا أو ظلًّا لطيفا لا يزعج أحدا. لكنها رفضت هذه القوالب واندفعت ربما دفعت ثمن ذلك ظلما ولوما وسوء فهم، وربما لم تدفع شيئا لأنها كانت ترسل كل شيء عبر ضحكات ساخرة، لكن بيونة، في النهاية، تركت أثرا لا يستطيع أحد إنكاره.

في التلفزيون، خلّد الناس حضورها في مسلسل “دار سبيطار” (1972) الذي ربط اسمها بالذاكرة الشعبية إلى الأبد. وفي السينما الجزائرية والأجنبية، ظهرت وجهًا من الوجوه التي تعبر الحدود بسهولة لأن صدقها لا يحتاج إلى ترجمة. وظلّت قدراتها التمثيلية تتطور مع الزمن، معيارًا في التمكّن الجسدي، والتوظيف الصوتي، وحالات الجرأة، والتمرّد، والسخرية القاتلة.

رحيلها قبل أيام ليس خبرا فنيا، بل نهاية فصل من الذاكرة السينمائية والدرامية الجزائرية فصل يخص امرأة كانت تقول الحقيقة بوجه مكشوف، وتنطق باسم شريحة كاملة من المجتمع بأمانة لا يملكها إلا القليلون.

رحلت بيونة، لكن ظلّت طيبتها، مزاجها الغريب، جرأتها المتناثرة في الشوارع والشاشات، مزيجًا من السخرية والصدق، من الحقيقة والخرافة. ولهذا ستظل باهية بوزار (بيونة) جزءا من ملامح الجزائر التي لا تموت.

باهية بوزار “بيونة” 1952–2025

ممثلة، مغنية، وراقصة جزائرية

عن يسين بوغازي

يسين بوغازي
شاعر وكاتب وصحفي جزائري، يكتب في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية الجزائرية والعربية، صدر له كتاب توثيقي حول أغنية الراي الجزائرية (الراي..الأغنية الجريحة شجن الهامش).

شاهد أيضاً

شهوة الغياب: عن الأدباء العرب المنتحرين

العاشر من أيلول/سبتمبر هو اليوم العالمي للحدّ من ظاهرة الانتحار،ففي كل عام حسب إحصائيات منظمة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *