آخر المقالات
الرئيسية » ممحاة » وجود لغوي

وجود لغوي

تغيب العبارة الذاتية خلف التأويل الذهني ويصبح التفسير اللغوي همّ المتلقي، ولكن لم يحدث أن انتمت عبارة إلى كاتب ما، وأصبحت ابنة شرعية لعزلته وهواجسه، ما لم تستقِ ذاك الإيقاع من وجود الكاتب نفسه على الورق، أي تشكله على هيئة تركيبة كلمات تشبهه وحده، إلا أن تضاعف عدد البشر وتنوع رؤى الكتّاب جعل من وجود عبارات خاصة ومنتهية لا يضاف إليها ولا تنتمي سوى لصاحبها ضرورة تخلق التميز بين أساليب الكتابة ورتق النفس عبر اللغة..

لا أسعى للبحث عن تفسير لجدوى الكتابة بالمعنى العلمي للسؤال، إنما هو سؤال يراود معظمنا والإجابة الجاهزة دائماً: الإنسان كائن لغوي..! لماذا لا يكون كائناً موسيقياً أو حركياً أو إيمائياً..؟ يا لها تلك النبرة الصوتية بالتعبير عن الذات من غريبة، كيف تطلع من تلقائية كلامنا، ولا يمكننا أن نمسك بها لنروضها كما نريد أو كما لا نريد.. هي تمسك بلساننا وتقولنا بهواها وعلى مزاجها الشخصي، حتى نصوصنا التي نكتب تقارب في ضجيجها عصياناً ما للغة عندما تقرأ بصوت عال، رغم ذلك أعتقد أن نهاية الكائن على الورق لن تقرب خاتمتها لأن اللغة تغير نفسها كل يوم دون معرفتنا، وتقيم بأعماق عواطفنا وتسجي تياراتها المدهشة على حبالنا الصوتية..

اللغة تريد أن تقال كما تشاء هي، ونحن نحب أن نكتب كما نريد نحن، لكن المفارقة أن كلنا اللغة ونحن منصاعون لانقلابات الحياة، فضرورة الكتابة تأتي من كونها أصبحت خطاباً لأحد مجهول وربما لتفريغ طاقة باطنة، ولا تستغربوا لو كانت نهاية الكاتب كنص على الورق وحسب..! أي ربما سيقول كل ما عنده في لحظة واحدة ثم يؤجل الموت أو يستقبله وهو يضع آخر نقطة في حياته..

وليست تجربة الشاعر الفرنسي جان نيكولا أرثر رامبو (1854-1891) إلا دليلاً قطعياً على قول كل شيء في وقت معين ثم الانصراف إلى الحياة، حيث بدأ رامبو بكتابة الشعر عندما كان في السادسة عشرة من عمره وانتهى منه بعد ثلاث سنوات، لينصرف للتجارة بعيداً عن الكتابة نهائياً، ويعتبر رامبو واحداً من أهم شعراء العالم المعاصرين، ترى هل نقف ونسأل إن كانت ستولد ظاهرة أخرى تتوقف عن الكتابة وتترك تلك البصمة كما فعل رامبو؟.

في اختصار الكتابة وتكثيف ما نود قوله، يمكننا تلمس معنى الكلمة، أما في زحام الكتابة اليومية المخيف فلا يمكن قراءة اتجاه معين أو الوصول إلى بوصلة موضوعية تجعلنا ندرك أن النص هو اجتراح روحي للذات، وهو فوران مؤقت يخمد بعد وصوله إلى الورق، الفكرة هي أن تجد نصاً مستمراً لا يموت مع موت صاحبه، ويقال حين يكون قوله حاسماً في الحياة، وإلا دعونا نكمل الحياة بلا كتابة هكذا يندمل القلق قليلاً ونكمل الضحك طويلاً.. النهاية كنص أو أحجية الارتياح عبر الكلمات يبدو أمراً عبثياً أيها السادة، والدخول بتلك التفاصيل يقتل الروعة التي أسميتها (وهماً) هذا تأكيد آخر على أن ما نحلم به هو أكبر من الوهم وفوق اعتبارات الكتابة، نحن نتواصل مع أراوحنا لأننا نفهم لغة ذاتنا أحياناً، ونفعل الكتابة لأن الكتابة بالنسبة لنا طقس ممتع يوصلنا إلى الآخرين ويوصل الآخرين بأعماقنا، كأننا نتعرف للتو على أنفسنا، في كل نص جديد يولد، ثمة عصيانٌ ما يستفز الحياة وشقاوة عابرة نلعبها على دهاليز المجاز.. نركب تعابيراً لنا ولغيرنا وأحياناً ليست لأحد، نلعب مع الموسيقا فتخرج النصوص من الورق إلى القلوب لتراقصها على إيقاع الأحلام وانعدام الجاذبية الأرضية كأننا نلهو وندوخ على أطراف الكلمات.. في الوجود اللغوي عالم آخر هو الذي نحلم به فقط لو يخرج من الورق إلى الطبيعة ليخلق مكانه الطبيعي وسط البحار والأقمار والكواكب السيارة..

مدير التحرير

عن عمر الشيخ

عمر الشيخ
شاعر وصحافي سوري. يعيش في قبرص. أصدر ثلاث كتب شعرية، وعمل في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية والتوثيقية في سورية. يكتب في الشؤون الثقافية لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونية العربية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …