الرئيسية » رصاص ناعم » زقورة مريم

زقورة مريم

ألواح ….

قالت الشمس:”تباً لجدائلي أنها تلسع صفيح مريم”.

قالت الريح :”بالأمس همست في إذن ذوائبي .. أن ترفقي بصفيح مريم”.

قالت الزهرة :”سأنبت من جديد كلما قطعني صفيح مريم”.

قالت العصافير :”لن نكف عن نقر الصفيح حتى يستيقظ النيام”.

قال الإنسان :”ملعون صفيح مريم، اقتلعوه إنه يشوه حضارة مدينتي”.

استيقظت المدينة متورمة، مترهلة كعادتها فهبت لالتقاط مفرداتها .. سارعت الأمهات إلى مسح أنوف أولادها بعد أن حشرت في حقائبهم المنقوشة الباردة.. ألقى الآباء أجسادهم في يم التيه وراحوا يخوضون بأقدام عارية، تراكض الأولاد لاستقبال يوم آخر من عمر طفولتهم المعلبة، بينما تراجعت الجدات إلى زوايا حادة مقاومات بما تبقى من قواهن كيلا تضيق الزوايا أكثر.

وحدها مريم تقف أمام زقورتها الشامخة في هذا العراء، تعد النجوم كسجين يحسب الأيام.

وحدها مريم ابنة العشرة أعوام تدق على صنجات صفيحها الغافي في الحر والقر ألحان السبات للنائمين.

استيقظت مريم على ضربات معدنية فعرفت إنه رفيقها سومر فقد حان وقت العمل.. إنها تحس بالبرد فمن يرحم ؟ قامت متجمدة الأطراف، قفزت أمام سومر تحمل قطع القماش، ودلواً صغيراً تعلقه على كتفها مثل سيدات المجتمع الراقي .. بدأت بسرد حلمها اليومي .. دارت حول سومر ركضت أمامه وهي تصفق بيديها كنسر يمتلك هذا الفضاء وكلما أنهت فكرة، أعادت صياغتها بطريقة أخرى أكثر مبالغة وتأثيراً.

قال سومر بتأفف: أمك وهل لأمثالنا أمهات؟ متى ستقلعين عن الكذب؟ طوت يديها فوق صدرها، وألقت برأسها على كتفها ونظرت إليه بعينين مخضبتين ببقايا نوم ودموع.

لم يجمع سومر ومريم سوى الفقر والتشرد والمعلم غالب الذي وزع عليهما غرف الصفيح وأسمالاً سماها أغطية، وألبسة وعدة عمل.

حاما حول السيارات كأسراب النحل الجائع.. ذاب صوتهما في الزحام ليكملا نغمة النشاز من “فالس” الصباح لهذه المدينة المتخمة.

كم كانت مريم تتحمل الركل، والرفس، والاحتيال من أطفال مثلها يلتحفون الفضاء، ومن أصحاب السيارات الفارهة ذوي الربطات الحريرية، والكروش المنتفخة، والإيماءات الفاجرة .. لكن عينيها كانتا هناك تجوسان الأفق البعيد بانتظار من سيصرخ ملهوفا “مريم” ويأخذها بأحضانه فيغطي حبه برد المكان .. لكن الجميع كانوا مسرعين يدفعونها من أمامهم دون الإحساس بوجودها.

وحده سومر كان ينتزعها من قسوة الوجوه ويسيران معا حتى مطعم الفلافل الذي كانت تفوح منه كل الروائح ما عدا رائحة الفلافل.

قالت واللقمة عالقة بين أسنانها: اليوم مسحت سيارة حمراء، ما أجملها، وما ألذ الدفء الذي هب من نافذتها، لو أنني أمتلك واحدة مثلها كنت بحثت عن أمي في كل مكان.

رمى سومر الورقة التي كانت تلف “سندويشة” الفلافل وضرب الأرض بقدميه ومشى مسرعاً، فلحقت به مريم، وتعلقت برقبته، وعندما لم تفلح في إرضائه ناولته ما تبقى من طعامها وهي تقسم بألا تأتي على ذكر أمها أمامه.

اختارا مكاناً دافئاً قبل العودة إلى العمل فقال سومر: اليوم مسحت سيارة وكأنها دبابة يا مريم.

فشاكسته: متى رأيت الدبابة ؟ كم تنافق يا سومر!.

فأكمل كرجل يتغاضى عن المشاكسات:

– وسمعت المرأة تقول لزوجها .. اليوم عيد ميلاد مجدي، إياك أن تدعو “ماهر” إلى الحفلة إنه ولد شرير سيعبث بألعاب “مجدي” ويتلفها.

قالت مريم بألم: سومر .. هل الأغنياء كلهم أشرار؟.

سرحا معا في فضاء هذا السؤال .. قالت فجأة: سومر .. متى عيد ميلادنا؟.

فقال دون تفكير: لست أدري .. مريم .. ما رأيك لو نحتفل بعيد ميلادنا؟.

عادت للمشاكسة: لكن ما أدرانا متى يصادف يا ذكي.

قال بنضوج: لماذا لا نسأل المعلم “غالب” إنه يعرف كل شيء عنا.

ضحكا بعذوبة فظهر بريق الحياة في عينيهما وخديهما رغم الأتربة التي تدفن طفولتهما.

سكتا برهة ليأخذا نفسا فأردفت مريم: ومن أين سنأتي بثمن الحلوى والمعلم يعلم عنا كل كبيرة وصغيرة، ألم يضعنا جواسيسَ على بعضنا، هل نسيت ما جرى لأحمد وعمار؟.

فأجاب برجولة محببة: لقد ضربهم المعلم، وسيضربنا، ألا نتحمل الضرب من أجل أول احتفال بعيد ميلادنا؟ صرخا 

بنشوة وضربا كفا بكف دليل الظفر والفرح.

في هذا اليوم عملا حتى ساعة متأخرة من الليل ثم تسللا إلى الشوارع ذات البروج، والمحلات ذات الواجهات  المصفحة، والمزدحمة بقوالب الحلوى، والمثلجات، والألعاب، والألبسة …في البداية حسبهم البائع متسولان فحاول إبعادهم بلطف مصطنع، لكن رنين النقود جعله يظن أنهما متنكران بزي التشرد فضحك من أعماقه وهو يجهز قالب الحلوى ويكتب عليه المتسولان.

قالت مريم وهما يعبران تقاطعاً خطراً: كم شمعة سنحتاج؟.

فأجابها ويده توجه يدها: شمعة لك وشمعة لي.

(نزل ننار من عليائه، طبع قبلة الميلاد على الوجنات الباردة فأنارت المدينة قلبها، وطردت أشباحها بعيداً، وتوهجت شموع الميلاد في عتمة الزوايا).

جلست مريم على ركبتيها أمام سومر الذي يفرك كفيه كي يشعل الشموع.

أضاءت الغرفة، لمع الرماد في الصفيح, تباينت قطع القماش المهملة هنا وهناك والمدعوكة بعرق الأصابع، نظر سومر إلى وجه مريم الطافح بالبشر فجاشت نفسه وأحس برغبة عارمة بالبكاء .. وفي زاوية ضيقة تجمعت الأغطية ذات المكعبات الدقيقة والألوان الهاربة، وعلى جانب شحيح الضوء بدا مكبا لأوراق “السندويتش”.

ارتجف ضوء الشموع متراقصاً على حائط الصفيح فبدت أخيلة الولدان وكأنهما جنيان قادمان من عالم موغل في الضباب.

مدت مريم إصبعها إلى قالب الحلوى وقد أغرتها حبة الكرز التي تتوجه، فأعادتها بخوف، وأخفتها وراء ظهرها، ضحك سومر شامتاً واستل سكينه الكباس من جيب بنطاله الخلفي, فتحه بطريقة مسرحية وحاول تقطيع القالب، فأمسكت مريم يده وصاحت برجاء: سومر لا تقطعه الآن .. دعه ينام معي الليلة. تراخى السكين من بين أصابع سومر وحشر يديه بين فخذيه واستسلم للنوم فقد هده التعب.

صاحت مريم باحتجاج طفولي: سومر الآن وقت النوم ؟ ألن نطفئ الشموع؟‍.

في هذه الأثناء تسللت نسمة جافة من بين شقوق الباب، فأطفأت الشموع.

ساد الظلام، فتحت مريم النافذة، راقبت تزاور النجوم مع بعضها بعضاً، رفعت كفيها أمام وجهها وبدأت صلاتها بالهديل: “يا الله سامحنا وادخل الرحمة..

إلى قلب معلمنا فقد خالفنا تعليماته وعملنا لحسابنا .. أمي أين أنت يا أمي؟ يا ألله إن كانت بين الأحياء فدلني على مكانها، وإن كانت هناك .. في السماء فخذني إليها”.

(غاب ننار بين الغيوم, فلحقته النجوم واحدة تلو الأخرى وبقي الليل وحيداً, راكعاً على عتبات مريم يردد صلواتها مع صدى الصفيح الأصم).

استيقظت مريم على لغط قوي وأصوات محركات تتفاخر بتفوقها على الصوت البشري.

أطلت من النافذة فعاجلها صوت أجش: ماذا تفعلين أيتها الشقية‍؟.

سارعت مريم إلى إيقاظ سومر ظناً منها أن هؤلاء رجال المعلم “غالب” وقد افتضح أمر قالب الحلوى .. هزت سومر بعنف, صرخت في إذنه كوليد يُختبر سـمعه، شـدته من يديه، سحبته من قدميه لكن سومر لم يتحرك ولم يغير من وضعيته الجنينية فخرجت وقد أعيتها الحيلة تجشأ الصوت ثانية: ما الذي يبقيك في هذا العراء يا بنت ؟.

جمعت شجاعتها ووجهت قبضتها الصغيرة نحوهم وصاحت: هذا بيتي .. أنتم ماذا تفعلون هنا؟.

فعاجلتها أسنان الآلة الجبارة، والتقمت غرفة الصفيح من جذورها ثم رفعتها عالياً ورمتها بعيداً، ركضت مريم كفأر أضاع اتجاهاته, خافت أن تخبرهم أن سومر نائم في الداخل فيعلم المعلم (غالب) الذي هددهم بالحرق إذا اكتشف بأن الصبيان ينامون مع البنات دون أن تعرف السبب، وخافت على القالب حيث سيعتبر المعلم أنهم سرقوه وهو الذي يصف السارق بأشنع الألفاظ !.

حاولت أصابعها الضعيفة زحزحة الصفيح عن بعضه لكن دون جدوى، فألقت برأسها فوقه وصاحت بصوت كبره المعدن الرقيق آلاف المرات: سومر .. رفيقي.. أخي.. هل أنت حي؟ إن رفيقي بالداخل.. انتم قتلتموه.. ألا تسمعون؟ سومر قل لهم أنك بالداخل.

جرت همهمة عالية بين الرجال.. احتدم النقاش والجدل.. تعالت الصيحات ثم أطبق الصمت.. رفعت مريم رأسها عن كفن الصفيح فوجدت المكان يصفر بالخواء، لقد فر الرجال ومجنزراتهم .

وحدها مريم في العراء .. وحدها تحفر خدود الأرض علها تجد سومر الذي ابتلعه عالم الصفيح. (كسر ننار ريشته، مزق صفحات أشعاره وتوارى بعيدا، بعيدا فهطلت دموعه أمطاراً كالسيوف تجرح كل من تصيبه).

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فاديا عيسى قراجه

فاديا عيسى قراجه
كاتبة سورية، أصدرت خمس مجموعات قصصية وروايتين قيد الطباعة، ونالت العديد من الجوائز، تكتب وتنشر في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *