آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » حين تدق الساعة التاسعة
لوحة للفنان إسماعيل نصرة

حين تدق الساعة التاسعة

تذهب أمي للسهر عند أختي كي تصلح ما تصدّع من علاقة بين أختي وزوجها، بينما أبي يقضي جلَّ وقته في المقهى الذي يجمع المتقاعدين من الحياة، وفي حال عودته يلجأ إلى فراشه..

أجلس لوحدي في البيت أمام التلفزيون، أتنقل بين المحطات العربية، أستمتع بالأغاني التي يطلق عليها المثقفون بالهابطة وهي بهبوطها متعتي الوحيدة، أتقاسم دور المغني والمغنية، وأحلم أن أمثّل يوماً بطولة أغنية لهؤلاء، أبدّل فيها الأثواب القصيرة والطويلة، وأتنقل بين المسابح الفخمة، وشواطئ البحر، أحلم بتمثيل دور العشيقة الفاتنة التي يسعى إليها الرجال، أحلم أن تضمني فرقة شبابية لنرقص ونلهو وسط ضجيج الموسيقى..

أحب بل أعشق تلك المطربة السوبر، وأتمنى أن يكون لي ربع جمالها ودلالها، وقدرتها على سحر أكبر عدد من الشباب والشابات ..
أكره الأغاني الفجائعية التي تستهلك المطرب على خشبة المسرح لأكثر من ساعة، وهو يجلد عشاقه بنواحه، وأزيز موسيقاه ..
أوقفت جهاز التحكم على محطة فرنسية، أضاءت الشاشة، خرج مذيع من باب ملون.. قفز على مسرح صغير، انحنى أمام جمهوره، تكلم بلغة لم أفهم الكثير من كلماتها..
كم إله اشترك في إبداع هذه التفاصيل.. طول فاخر ..عضلات مفتولة .. شعر ذهبي .. عينان تضمان أسرار السماء، وعمق البحر .. بياض مشرَّب بحمرة ناعمة … وصوت مخملي بديع، تخرج الكلمات من بين شفتيه كنغمات بيانو ..

كنت كل يوم وفي التاسعة مساءً أنتظر خروج أمي، أهرع إلى المرآة، أمشط شعري، وألون شفتيَّ بحمرة قانية،،أخلع ملابسي البيتية، أفتح خزانتي، وأنتقي ثوباً يليق بما يملك هذا الفرنسي من إثارة مرمرية، ثم أمارس أصعب مرحلة وهي ترقب وصوله، وخروجه من باب ضيق تلاحقه حزم الأضواء المتساقطة فوقه، وحوله وهو يلوح بالميكروفون أمام عشاقه وكأنه يتحدى حبي ويتجاوز غيرتي التي تبدأ ما أن يقترب من أي أنثى لفتح حوار سريع معها يشبه خطواته، يطلق ضحكات تهزني هزاً، وقبل مغادرة المتسابقة من برنامجه خاسرة كانت أم رابحة، يقوم بتقبيلها، ويمسِّد بأصابعه الطويلة على شعرها، أو يربت برقة على كتفها أو يداعب خدها ..
كانت غيرتي مجنونة دون أن أستطيع فعل أي شيء، سوى أن أدير وجهي عن تلك الشاشة التي تمعن في اهانتي ..

عرفت ماذا يحب هذا الرجل، صبغت شعري الأسود بلون ذهبي، ووضعت عدسة خضراء أخفت لون عيوني الحقيقي، واتبعت دورة للرشاقة أحالتني إلى شبح مخيف، كما دخلت معهد لتقوية لغتي الفرنسية التي كنت أبغض دروسها أيام الثانوية، اقتنيت أغاني شارل أزنفور، وميري ماتيو، وكلود فرنسوا.. وحفظت أسماء أشهر نجوم السينما والرياضة والأدب الفرنسيين.. وطعّمتُ كلماتي بالكثير من التعابير الفرنسية ..

كل ذلك وأنا أحافظ على موعد التاسعة حيث يطل ميشيل بكامل روعته وانطلاقه وحبه للحياة، ويهتف: (Michel chez- vous ) يرافقه دويٌّ موسيقي يسكرني، ويدفع الدم إلى وجهي، فأهبُّ واقفة، وأشرع في تقليد حركاته الرشيقة، ودورانه هنا وهناك، أغمض عيني، أتخيله يراقصني، ويجذبني إلى صدره مرة ثم يبعدني في رقصة مجنونة أنتشي بها.. لقد حفظت أدق تفاصيله وراقبت أبسط حركاته، وإيماءاته، وتمتعت بلغته التي تدغم حرف الراء بأنوثة مذهلة..

يجلس أمام جمهوره، يجري حوارات يستعصي عليّ فهمها كلها .. يتنقل بخفة تأسرني بين هذا وذاك.. وبعد أن ينتهي برنامجه، ينظر في عينيّ، يبتسم، ويرسل قبلاته فأكون أول من يتلقفها، أتلمس خدي، وأغلق التلفزيون، لا أريد سماع صوت بعد صوته، وكأن أذني ما عادت تستسيغ سوى نغماته.. آه يا للروعة، لقد جعل مني شاعرة أهرع إلى طاولتي، أفتح الدفتر، أكتب له رسائل شوق ساخنة أعنونها برسائل بيضاء لرجل من ياسمين، أحكي له عن وحدتي، أصف له غرفتي، وأبوح له بأول حب وقعت به، ثم أدعوه لزيارة بيتي، وأشكو له ابتعاد الجميع عني وأتضرع أمامه كي يبقى معي، ثم أعانقه مطولاً قبل أن يفر من بين يديّ..

كنت أتخيله في أكثر المواقف حميمية.. كنت أموت شوقاً لعناقه، والاتحاد معه بقبلة تسحب روحي من بين شفتيّ.. بل كنت أتخيله وهو يقبلني كيف سيحمر وجهه البهي، وكيف سيلفظ كلمة حبيبتي، وكيف ستتنغم حروف اسمي بصوته الشجي.
أصبح موعد التاسعة موعداً مقدساً لا أسمح باختراقه بأي شيء خارجي، حيث أقوم بإقفال أجهزة الهاتف، وأمتنع عن فتح الباب حتى لو تكسر الجرس من الرنين..

لكن ما الذي حصل له اليوم؟ كان وجهه كئيباً.. من تجرأ على تعكير مزاجه ..خرج كعادته، قفز بين جمهوره، صوته كان مغلفاً بحزن شفيف، حاول مداراته لكنني وحدي من التقط إشارات قهره.. أنا من تدرك أحاسيسه، وتحفظ انفعالات وجهه، أنا وحدي من تعرف مما يعاني، لعله اشتاق إليّ كما اشتقت إليه، ربما ملّ من هذه الوجوه التي تطالعه بنظرات جامدة حيادية لا حرارة فيها، لعله كره تلك النظرات التي تعتبره مصرفاً متحركاً… لكنه بالنتيجة لم يعد كما كان، قَفزاته قصيرة اليوم، جمله مقتضبة، خمد في صوته شيء لا أعرفه.. انطفأ في نظراته البريق..

قبل أن يطرأ هذا التغيير على ميشيل لم أنتبه أن هناك أرقام هاتفية تمر أمامي، بل أكثر من ذلك هناك بريد إلكتروني .. تسارعت دقات قلبي، اقتربت من التلفزيون، نقلت الأرقام والحروف الأجنبية وأنا أتخيل ميشيل يبوح لي بما يؤلمه، ويضحك من لهفتي، تخيلته وأنا أدخل السرور إلى قلبه، تخيلت ردود أفعاله ودهشته لأنني الوحيدة التي التقطت ألمه من مسافات بعيدة، تخيلته يتوسد صدري ويناديني (ma mere)..

قررت وأنا ألجأ إلى سريري أن أجري غداً اتصالاً به، وإن لم أتمكن سألجأ لأقرب مقهى أنترنيت، وأرسل له رسالة أخفف عنه، وأسعده بكلمات ما سمعها من أنثى …نامت فرحةُ وصاله معي على وسادة واحدة ..

استيقظت من نومي على أصوات عالية، ومشاحنات أظن أنني عرفت مصدرها .. هذه أختي تزورنا كعادتها، وقد أقسمتْ ألا تعود إلى بيت زوجها ثانية .. يا للسماء .. لقد أُخترق نظام حياتي من جديد .. صرخت بصوت عال ٍ: ميشيل !!!
قمت مفزوعة، كان أولاد أختي يتصارعون على شيء، ما أن تبينته حتى هجمت على حلقتهم المغلقة، وانتشلت جهاز التحكم من بين براثنهم، وهنا بدأت سيمفونية الصريخ، والزعيق .. حتى استسلمت تحت ضغط أمي ودموع أختي التي لم تجف أبداً، وسلمتهم جهاز التحكم، وانزويت في غرفتي أغلي وأفور ..

وفي التاسعة انتظرت أن ينام الأولاد، وتنام أمهم، وينام العالم كي أعود إلى عالمي الوردي.. لكن شيئاً من هذا لم يحصل أبداً فقد بقي الأولاد وأمهم، والعالم ساهرون يتشاجرون على محطات تلفزيونية بعيدة عن ميشيل بعد النجوم ..

بعد مجادلات، ومناورات، وذهاب وإياب عادت أختي إلى بيت زوجها، وعاد الهدوء إلى بيتنا… وعدت لأمارس طقوس التاسعة بكل شوقي ولهفتي… أشعلت التلفزيون.. فأبى أن يشتغل لقد مسح الأولاد المحطات كلها، ولم يبق سوى المحطات الأرضية التي تسقم الروح.. حاولت التوليف لكن دون فائدة، بحثت عن عناوين ميشيل لكن العبث كان قد وصل إلى مكتبتي.. شددت شعري، وقضمت أظافري غيظاً.. وصرخت صوتاً رددته وحدتي، وجدراني، ولوعة فقدي لعالمي: كم مرة سيهرب مني رنين الساعة التاسعة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فاديا عيسى قراجه

فاديا عيسى قراجه
كاتبة سورية، أصدرت خمس مجموعات قصصية وروايتين قيد الطباعة، ونالت العديد من الجوائز، تكتب وتنشر في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *