آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » ألعاب صغيرة

ألعاب صغيرة

حدثَ أنّي كنتُ في زمنٍ ما طفلاً وأغلب الظن بريئاً. ومبكّراً وُضِعتُ في اختباراتِ ربّما كان يجدر بها الانتظار بضع سنوات أخرى.. كنتُ في الصف الأول فقط. في ذلك الزمن كانت ألعاب الأطفال بمعظمها لا تتطلب أكثر من ساقين سليمتين تطلق لهما العنان للركض والقفز والركل. مرّة كنّا نلعب “الركّيدة” في ساحة المدرسة، لعبةٌ بسيطة ورائعة ننقسم فيها إلى فريقين على أحدهما أن يطارِد الآخر، ويقصي لاعبيه من اللعبة واحداً تلو الآخر بمجرد لمسه. الخارجون من اللعبة يتجمّعون في زاوية بينما يحاول زملاؤهم الوصول إليهم لتحريرهم بلمسةٍ سحرية دون أن يتعرضوا للمسة قاضية من لاعبي الخصم. اللعبة تنتهي بفوز الفريق الملاحِق اذا تمكّن أعضاؤه من إخراج جميع لاعبي الفريق الآخر، أمّا بالنسبة للفريق الهارب فالشيطان وحده يعرف كيف يمكن أن يفوز بهذه اللعبة، ربّما الفوز هنا يتمثّل في عدم الخسارة فقط. يبدو ذلك منطقياً الآن، ففي منظومة الخصاء المتوارثة هنا تتعلّم سريعاً أن تلعب وتعيش لتجنّب الخسائر لا لتفوز بأي شيء.

حسناً، بالعودة إلى ذلك اليوم المشهود. حدثَ أن جميع زملائي في الفريق أُخرِجوا من اللعبة ولم يبقَ غيري يلحق بي فريقٌ بأكمله، وأثناء محاولتي الهرب منهم و المناورة للوصول إلى زملائي لألمسهم وأعيدهم للعبة مجدّداً تعثّرتُ وسقطتُ، ولأنّي كنتُ مندفعاً بأقصى سرعتي لم أستطِع التخفيف من حدّة السقوط الذي كان على جانب وجهي مباشرة، والنتيجة جرحٌ عميق بمحاذاة عيني اليمنى، وخلال لحظات كنت أتذوّق طعم الدم وأشمّ رائحته، أذكر أنّ ذلك لم يكن مرعباً أو مقزّزاً بل كان غريباً فحسب. الرعب كان حين تم إسعافي للمستشفى لخياطة الجرح حيث وضعوني على طاولةِ بيضاء باردة، وتكاثر عليّ أشخاصٌ بيضٌ جدّاً ثبّتوا يديّ وقدميّ ورأسي، وفي المشهد مقصّات وأدوات حادة تكاد تنغرز في عيني. شعور أوّل شنيعٌ بالعجز والشلل واجهته غريزياً بالزعيق وبالاستخدام الأوّل لشتائم لم أكن أعرف معناها، لكني كنتُ مدركاً أن وظيفتها الإساءة لهؤلاء الأشخاص. اليوم أشكرُ الآلهة أنّ والديّ لم يكونا حاضرين، الأمر الذي جنّبهما صدمة كون طفلهما الذي يفترض أن يكون بريئاً لديه موهبة استثنائية في السُّباب لم يتعلّمها من أي منهما بالتأكيد.

انتهت المحنة بعودتي إلى المدرسة بوجهٍ مضمّد، حيث كان ” الأوتوكار ” على وشك المغادرة لدى وصولي، وكالعادة كنت أستعدّ لأنحشرَ مع صغار الحجم والشأن في مقدمة الباص فلسنا إلّا مضطهدي الصف الأول، بينما تزداد قيمة الأشخاص وحصصهم في المساحة باتّجاه الداخل. المقعد الأخير الأوسع والأكثر استيعاباً كان محتلّاً بقوة الأمر الواقع لعصابة فتيات في الصف التاسع. بالنسبة لنا كان ذلك المقعد حلماً لذيذاً لكنّه مستحيل التحقيق، و لم يكن بيدنا إلا أن نستعجل الزمن لنكبر و ننتزع حقنا في الجلوس هناك. العجيب أن غرزات رأسي الحديثة أثارت لسببٍ ما اهتمام فتيات العصابة النافذات، فأخذنني إليهنّ في مقعد الشخصيات المهمّة وبدأنَ حرفيّاً بتداولي فيما بينهنّ. وجدتُ نفسي أتنقّل من يديّ إحداهن إلى حضن الأخرى فيما كنّ يتفحصنّ الجرح ويتحسسّن وجهي بتعاطفِ شديد ورقّةٍ لا تليق بأفراد العصابات، حتّى أنني حظيت ببعض القبل فيما يبدو تلمّساً مبكراً لحاجة الأمومة لديهن. بالنسبة لي كان كل ذلك رائعاً بقدر ما كان غريباً..

بالطبع لم أكن لأفهم كيف يمكن لندبةِ ووجه متورّم أن يكون محط اهتمام عليّة القوم، لكن الأهمّ هو هذا الانتقال الضخم والمفاجئ الذي كان أكبر من قدرتي على الإحاطة به بالكامل.. المؤكّد أنّي كنت منتشياً بالكامل لوجودي هناك، وغارقاً في إحساس أوّل لذيذ بكوني شيئاً مهمّاً. أذكرُ بوضوح أنّي حين نظرتُ من مقعدي الجديد باتّجاه الآخرين وجدتهم صغاراً فعلاً.. أدمنتُ فوراً هذا الاحساس وزاد تعلّقي به مع تكرار السيناريو في كل مرة أصعد فيها للباص خلال الأيام اللاحقة، وهكذا صارت المدرسة بالنسبة لي هي رحلة الذهاب والعودة فقط، وأمّا حقيقة كوني في الصف الأوّل فقد بدأتُ أراها أمراً غير مناسبِ على الإطلاق، ولابدّ من إيجاد حل سريع للانتقال للصف السادس على أقلّ تقدير. استمرّت الحال هكذا لبضعة أيّام أخرى إلى أن جاء اليوم  المشؤوم حين ركبتُ الباص و وجدتُ صبيّاً آخر بجبيرة كبيرة في يده يحتلُّ مكاني بين الفتيات، ويستمتع بكلّ ما استمتعتُ به خلال الأيام الماضية.. عرفتُ فوراً أنّ علي العودة ذلك الاكتظاظ حيث أنتمي أساساً، فوجودي الطارئ في المنطقة المهمّة لم يكن حقّاً مكتسباً بل كان امتيازاً مؤقّتاً تمنحه لك العصابة وتسحبه منك متى تشاء. لاحقاً وبمرور السنوات تأكّدتُ أن الاختلاف والتفرّد بل وحتى الغرابة هي عناصر جذب فطرية لدى النساء، لكنّها بالعموم ليستْ عناصر كافية أو نهائية. فكّرتُ أن مصير الصبي ذا الجبيرة لن يكون أفضل من مصيري، لكن لم يكن في هذه الفكرة كبير عزاءٍ لي.

إذاً.. اختبارٌ أوّل بشع لمعنى أن تعيش كذبة، كما أنّ السقوط إلى الواقع مجدّداً لم يكن أمراً سهلاً بالمرّة. فالزمرة التي تركتُها هناك لم يَرُقها ما أصبحت عليه أثناء أيّام شهرتي المعدودة، وليس وارداً أن تأتي بعد هذا الغياب وتقول ببساطة: ” هيه شباب، لقد عدت.. هيّا بنا نشعل حريقاً خلف الحمّامات.. أو دعونا نجمع بعض السحالي ونرميها على الطلاب من الطابق الثاني “. الأمور ليست بهذه السهولة ولكي أستعيد مكانتي كان لا بدّ من القيام بشيء استثنائي.

وجاءت الفرصة سريعاً.. بعد أيّام قليلة وصلنا إلى المدرسة و كانت أبواب الصفوف مقفلةً لسبب ما، و تجمّع الأطفال في الممرّ الطويل أمام الأبواب بانتظار أن يأتي أحدٌ ليفتحها. هنا و على مرأى من الجميع استنفرتُ كل مهارتي وحماقتي، وتسلّقت إلى نافذة صغيرة مفتوحة أعلى الباب المقفل. خطر لي أنّه ربّما أتمكّن من فتح الباب من الداخل وأُنقذَ أصحابي من الانتظار في البرد، وإنْ لم يحدث ذلك فإن هذا التسلّق الأسطوري وحده كفيلٌ بإعادتي إلى وضعي المرموق في المجموعة، كنتُ متأكدّاً من ذلك نظراً لعبارات التشجيع التي سمعتها، ونظرات الاعجاب والدهشة التي لمحتها سريعاً أثناء قيامي بالفعل البطولي.

حسناً ! لم يحدث شيءٌ من ذلك، بل إنّ الأسوأ كان على وشك الحدوث.

حين صرتُ في الداخل لم أتمكّن طبعاً من فتح الباب. لم أهتمّ كثيراً، بل تمدّدتُ ببساطة على أحد المقاعد منتظراً دخولهم حين يحلّ لهم أحدٌ ما مشكلتهم، في الوقت الذي حللتُ فيه مشكلتي بنفسي، أليسَ هذا رائعاً؟! كلّا ليس كذلك. فقد فُتِح الباب بعد دقائق ودخل منه سيادة المدير شخصياً، وعلى وجهه ذهول من النوع الذي تراه مرّة أو مرّتين في حياتك فقط. لم يكن ذلك شيئاً جيّداً بالطبع، فقد أذاقني بعصاه الشهيرة علقةً تاريخية وعلى مرأى من الجميع أيضاً، طالباً منّي في مرحلةِ ما بعد عدة ضربات موجعة التعهّد بعدم القيام بذلك مجدّداً، لم أُجب بكلمة واحدة مهما أعاد الطلب و مهما زاد وتيرة الضربات وقوّتها، لطالما تحوّل رأسي في حالات كهذه إلى مجرّد كرة فولاذ مصمتة غير قابلة للاختراق. كنتُ أحاول فقط حبس دموعي الأمر الذي لم أنجح فيه تماماً.. بالعموم استسلم الرجل أخيراً نصف راضٍ، صحيحٌ أنّه لم يتنزع منّي تعهّداً لكنّه بالتأكيد جعل منّي عبرةً لمن يعتبِر ولا يعتبِر.. إدراكٌ مبكّر لحقيقة أن البطولات الفردية هنا أمرٌ غير مقبول، والخروج عن القطيع خطيئةٌ كبرى تنزَع عنك بركات السلطة، وتُنزِل بك أشدّ عقابها، وذاك الضرب المبرّح لم يكن بالتأكيد بسبب الحرص على حياتي الغالية وضرورة عدم تعريضها للمخاطر مجدّداً.

في النهاية عاد كل شيء إلى طبيعته بالنسبة لي، ربّما لأن أصحابي كانوا مجرّد أطفال طيّبين لا يعرفون شيئاً عن اللؤم و الردّ بالمثل. لكن السبب في الغالب كان الحلّ العبقري الذي ابتكرته لأزمة التحكيم في كرة القدم التي كنا نلعبها في المدرسة. حيث كنا نقضي معظم المباراة نتخاصم حول أحقية أحد الفريقين بمخالفة ما، أو ركلة جزاء أو لمسة يد، و كان الوضع يتطوّر إلى عراك بالأيدي والأرجل في كثير من الحالات. اقتراحي كان أن يحلف صاحب الحقّ يميناً واحداً : ” وحياة أمّي “. فمن سيجرؤ أن يحلف بحياة أمّه كذباً؟! لا أحدَ طبعاً.. كان ذلك على بساطته كافياً جدّاً، وحلّاً لإحدى أكبر مشاكلنا في تلك الأيام. وأعاد لي بالطبع مكانتي اللي كدت أخسرها إلى غير رجعة.

كنتُ مجرّد صبيّ صغير، ولكنّ كل هذا و ذاك وأكثر حدث معي أنا …. وحياة أمّي.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن زياد حسون

زياد حسون
كاتب وقاص سوري مُقيم في اللاذقية، حاصل على ماجستير في الإدارة، يكتب وينشر مقالات وقصص في عدد من المجلات والدوريات الأدبية، صدر له مجموعة قصصية بعنوان: “ڤودكا مغشوشة”.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *