آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » “أحلَى أيّام غرناطة”

“أحلَى أيّام غرناطة”

وَكأنَّ ما كانَ ينبتُ بينَ الشّرايين قناطر إشبيليَّةٌ، وَجناتٍ هاربةً من ضلوعِ قصرِ الحمراء. وَلأنَّه كان في الأندلسِ يهيمْ، كانَا يرميانِ كتبَ التَّاريخ وراءَهُمَا، وَيَدْلُفانِ معاً، بعيداً عن كلِّ عين في مدينةٍ كانتْ ساكنةً هادئةً وادعة؛ غفلتْ عن خوائِها البصائر. تُحدِّثُهُ عن السّماء والطيرِ وصوت فيروز، فيجيبُهَا بالشعر والحبّ والقصائد. تفرُّ من عينيهَا العنادلُ، كلّما حاكَتْ يدُهُ على أصابِعِهَا خرائطَ من عوالمَ أخرى؛ عوالمَ تخضعُ لنواميسَ جعلَ لهَا من عطرِ ضفائرِهَا شريعةً ، مبدؤُهَا ابتسامةٌ عند الفجر، وَختامُها ضحكةٌ من القلب آخرَ الليل.
وَلأنَّ دغلاً من الغاردينيا كان يتسلقُ دواخلهَا، وَقلبُهَا المغلَّفُ بالسَّاتان الرقيقِ ما كان يطوفُ إلاّ بين راحتيهِ، دخلَهُ فاتحاً وَمُحتلّاً، فأقامَ في الخواء المملكة، وأطلقَ على عرشها “غرناطة” فَصارت “صباح الخير” منهُ مُعلَّقةً، و”مساء الخير” رواية !
راحَ يتغنَّى “بالغينِ” فيها حتَّى صارتْ مجداً مُتوَّجاً على جبينِهَا، وَبذوقِ الفنان الرفيع، كان يبثُّ المراسيل ويبرقُ زاجلاً، لتنثالَ الرعشة ما بين شفتيه وَالأصابع. كانَتْ تَزدهرُ بين راحتيه، مثل صحراءٍ أصابها الرّخاء والنماء، وروحُهَا ترتفعُ أمامهُ مثل أعمدةٍ دقيقةٍ رقيقةٍ تعلوها تيجانٌ غايةٌ في التناسق والانسجام.
راحَ يهربُ من هندسة الفراغ، فيكسُو مملكتَهُما من الداخل، فيورِّقُ هنا، ويُكثِّفُ هنا، وَينقشُ هناك. يملأُ الأفاريزَ من فيض طِيبهِ، ويزيّنُ السماء بخيوطٍ من ذهبٍ وَفضةٍ. هكذا حتَّى صارَ العالمُ بين يديهِ تحفةً، وصارا عند الصَّحوِ وَعند المساءْ، يَشقيانِ في العودةِ إلى عالمِهِما البائس، حتى قضى الزمانُ فعلَهُ وَغاب الخواء، وَاحتلَهُ الغرباء، واستحالَ العشبُ والعرشُ إلى غابةٍ اسمنتيةٍ، وَصارتْ “غرناطة” ضاحيةً سكنيةً، ولمْ تعد المدينة ساكنة، بل صارتْ مارداً مشاكساً عبثَ بأقدارهِما، وكما دخلاها بمحبةٍ، غادرتْهُما “غرناطة” بمحبة، وصارتْ “الغين” فيها غلَّةً، وَغربةً وغيابْ. تاركينَ فيها الدموعَ نوافير، فخرجَ منها، وخرجتْ منه كما دخلاها عاشقين لا فاتحَين.
واليوم، صارَ الدَّغلُ يباساً، وَالإسمنتُ يرطنُ ما بين القلب والقلب، وَالعمرُ يفتّشُ ما بين العنادلِ عن فسحةِ نورٍ تُشعِلُ ما بقي من حطبٍ أخضر. لمحَتْهُ من بعيدٍ، وَلمَحَهَا بيدهِ طفلٌ، وعلى وجههِ تلوحُ ملامحُ ملكٍ مخلوعٍ، وَعلائمُ مجدٍ متوَّجٍ بالخراب.

ابتسمَتْ بتحسّرٍ مرير، وابتسمَ، رفعتْ يدهَا بالسلام، ورفعهَا يدهُ، وَمضَيَا، كأنّهُما ما كانا يوماً، وَكأنّ ما كان ينبتُ بين الشرايين قناطرٌ من حلمٍ هارب، وجناتٌ راحلة عن خرافةٍ غفلَتْ عنها كتب التاريخ، عنوانهَا “أحلى أيام غرناطة”.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن غنوة فضة

غنوة فضة
كاتبة وروائية سورية، مواليد مدينة اللاذقية (1987)، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس من جامعة تشرين السورية، ودبلوم في البرمجة العصبية اللغوية، صدرت لها رواية "قمر موسى" نظرة على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع السوري.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *