آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » محرك وطنّي مفروط
لوحة للفنان السوري نزار علي بدر

محرك وطنّي مفروط

خمس عشرة فكرة كالعادة..
وحافلة واحدة..
تبدأ الرحلة بالتهديد:
“من ليس معه فراطة، لا مكان له”، يصرخ بنا السائق..

يصعد الجميع، الذين انطبقت عليهم الشروط ومن لم ينطبق..
أعتقد، بفضل قدرتي المعتادة على فذلكة الأشياء، أن عقولهم مثل عقلي، التقطت فقط كلمة “فراطة”، ثم حوّرت باقي الجملة إلى شرط ينطبق: “من هو فراطة، فليصعد”..

هكذا صعدنا.. قطعاً قطعاً.. أجزاء محرّك وطني مفكوكٍ مفروط، ومن العسير جمعه..
مفروطين من التعب والبرد.. 
مبلّلين بالمطر وبالحب وبالخذلان..
مكبّلين بالخيارات، ما اتخذنا منها وما لم نستطع..
مثقلين بالأفكار وبالرؤوس فوق الأكتاف، جبالاً لا تُخترق..

صعدنا..
الكثير من الاختلاط كالعادة، الكثير من الاختلاف، ومن التشابه:

امرأة مع كثير من أكياس الخضروات، حصتها اليومية من خير البلد، تضطر لحملها كلما نزل أحد أو صعد، إنما دون اعتراض، فعقلها مقتنع: لقد وفّرتْ الكثير بشرائها، وهذا رخاء في ذاته!
رجل بجانب السائق بتنا جميعاً نعرف حالته: “مصاب حرب” يصرخ السائق بصوت عالٍ، ليبرّر إعطاءه مكانين، بينما عقله لا بدّ يفكر: “كان من الأفضل أن يصمت السائق، ولو ترك لي نصف مكان.. كيف صارت قدمي هويتي؟!”
شابٌ ثلاثينيّ أشقر قبالتي يحرك شفاهه كما أفعل حين أتمتم قصيدة في الشارع..
يبدو أنه يراجع شيئاً ما كان قد قاله.. يوقف شفتيه، يغمض عينيه ويزمّهما حتى تصيرا نقطتين، يعض على شفته السفلى، ويهزّ رأسه.. أخمّن أن عقله أنهى جرد الحوار، بنتيجة غير مرضية، أعرف ذلك لأن طريقة تعبيره تشبه ما أفعله أنا في اللحظة الأولى لاكتشاف حُمق شيء قلته؛ الندم ذاته..
امرأة بكامل زينتها في المقعد القريب مني تنظر عبر النافذة.. أرجّح من ملامحها المتشنجة أنها تعيش حاضراً مسفوكاً بناتجِ قرار ماضٍ قديم..
ربما يكون شيئاً له علاقة بالوحدة مدفوعة الثمن بحبٍّ رحل، أو بصعوبة العيش كامرأة منفصلة، ولم تعد تعرف كيف تتصلّ..  ربما يكون همَّ ابن عاجزٍ عن المشي، أو زوجٍ أعجزته الحرب أو التخلّي..

آخرون في الحافلة لم أرهم.. أمضيت بقية الطريق مع عقلي أنا؛ ليس نفكر، إنما على العكس، نحاول التوصل إلى هدنة تجعلنا (لا) نفكر..

أترك الرفاق وأنزل.. تسقط قدمي في ماء الشارع دون أن ألعن الشتاء كعادتي.. فعقلي منشغل بأمنية ترجّ: لو أني استطعت أن أترك رأسي مع رؤوسهم، وأنزل بدونه .. 
“ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قاطع الرؤوس”.. يخطر لي المثل الشعبي الذي لم أعرف يوماً أن أمتثل له..
في برد الشارع أتمنى، لو أترك رأسي بين الرؤوس وأستسلم لقاطعها، سواء أكان هذا القاطع هو الحب أو نعمة التجاهل أو الخدر أو براعة تقليد النَعام..

يندب عقلي أمنيته تجاه مضيفه الرأس.. وأسير شاردة، إلى أن تقطع خيمة للعزاء طريقي.. صورة شاب صغير على ورقة أبيض وأسود، شاب من المحتمل جداً جداً أن يكون عاد من الحرب مقطوع الرأس، وإن يكن بغير طريقتي..
يقطع موته طريقي ويبصق في وجه أمنيتي “المدلّلة”: 
تريدين جسداً بلا رأس؟ اذهبي إلى الحرب، يقول لي، أو اصمتي.

حافلة واحدة، والكثير من الأفكار..
مع “فراطاتنا” صعدنا ونزلنا، بينما كان سائق أكثر جبروتاً يهدد: من ليس فراطة، سيصير..

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن سارة حبيب

سارة حبيب
شاعرة وكاتبة سورية، خريجة كلية الآداب في جامعة تشرين، قسم اللغة الإنكليزية، صدر لها ديوان شعر واحد "النجاة حدث ممل للغاية" 2017، تكتب الشعر والمقالة، وتترجم عن الإنكليزية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *