آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » سارة حبيب تتصل بكَ

سارة حبيب تتصل بكَ

قصص الحافلات لا تنتهي..
مجموعة من الرؤوس والأجساد تنحشر في مستطيل يسير، وعليها أن تندمج بدرجة ما إلى أن تصل وجهتها.
أفكّرُ أن أبدأ نصاً، بينما أستقلّ حافلة جاءت بعد ساعة من الانتظار؛ ساعة لأن الجميع يكذب، وسائق الحافلة السابقة الذي أشار لي بما معناه (سأعود لآخذكِ في طريق النزول)، لم يرجع؛ انضمَّ إلى القائمة التي تتكاثر..

أبدأ التعداد السكاني لتحديد حصتي من سكان الحافلة..
اثنان من ذوي البزّات العسكرية، المكوّن السوري الأكثر شيوعاً هذه الأيام. شابٌ غارق في ما تبثه سماعات أذنيه، أو هكذا يدّعي. رجل وامرأة ثلاثينيان في المقعد الأخير، وبينهما قفص فيه عصفور ينتمي إلى أحدهما أو كليهما أو إلى مجاز شعريّ من قبيل “تزوجني/ لا أريد”.
امرأة سبعينية غريبة تجلس بجانبي، واثقة من نفسها ومن النصائح التي تقدمها للمنتظرين على الطريق: “اطلعو اطلعو أحسن من النطرة”. تنظر إلى السائق وتخبره قصتها القصيرة: “ناطرة من ساعة ونص، لو كنت صبية كانو طلعوني، وما نطرت كتير”.
حسناً.. ما لا تعرفه هذه العجوز، أننا صبايا وننتظر، ننتظر إلى أن تتقيح أقدامنا، وتُنهَك عيوننا.
ننتظر الحب، الفارس ولو على كركدن، الأمومة، نضج الأرز على نارٍ هادئة، ومواسم التنزيلات..
هل تعرف السبعينية ذات رائحة الأعشاب هذا؟!
لو لم تمت خالتي في عمر مبّكر، لكان لها هيئة هذه المرأة بالذات؛ الهيئة الواثقة لامرأة تقول كل ما يخطر ببالها، امرأة تعرف ماذا تريد وتمضي إليه مهما تعددت الحافلات. أحسدهنّ!

في المقعد الأمامي امرأة شقراء تتصل بروحها؛ ليس الأمر ميتافيزيقياً كما يبدو، فعلى شاشة المحمول الخاص بها يضيء الاسم أسفل عبارة جاري الاتصال: “روحي”؛ روحك تتصل بك، فيلم رعب حقيقي!
هل تحبه الشقراء إلى هذه الدرجة؟ أم أنها فقط تريد أن تجاكر الجارات والمتروكات خلف ركب الزواج؟!
حسناً بالنسبة إليّ على الأقل، الأمر لا يثير الحسد ولا الغيظ، لكن ربما القليل من التعجب؛ لا سيما وأنا أستمرّ بتغيير اسمك على هاتفي من اسمك في دائرة النفوس، إلى حبيبي، إلى الخيل والليل لا أدري لماذا، إلى الرجل السيء، إلى اسمك الصريح ثم إلى حبيبي مرة أخرى، تبعاً لتغيّر الحال بيني وبينك، أو للمزاج أو للطقس في الأكوادور.

بالمقابل، يركن اسمي في هاتفك إلى شكله الأول، الأوليّ بدرجة باهتة، (سارة حبيب تتصل بكَ)، وبدون أية تحديدات. ربما هكذا هم الرجال، يسمّون الأشياء بمسمياتها، والنساء بأسمائهنّ الصريحة وليس بـ “روحهنّ”؛ الرجال المنطقيون، الرياضيون، وذوو القلوب المربعة، أحبكِ = أحبكِ، ولا شيء أكثر..

أصل إلى وجهتي بعد تأخير؛ وجهة واحدة من بين العديد الذي أريده.
كليشيه “الطريق أجمل من الوصول” لم تعد تقنعني، سيحلّ عيد ميلادي عمّا قريب وعليّ أن أصل إلى مكان ما.
“ادفع الأشياء إلى سماء أو هاوية”، أقول لكَ، وأتزحلق..

نعم نعم، الكثير من القصص والأفكار في الحافلات، ولا أسأم من تكرار الكتابة عنها. 
التفرّس في الوجوه وتخمين قصصها شيء سحري ومثير، لا سيما بالنسبة إليّ، أنا التي لطالما عددتُ نفسي قارئة وجوه جيدة؛ على الأقل إلى أن نظرتَ إليّ في العين وقلتَ “أحبكِ” فصار الأمر يتطلب أكثر من الفراسة والحدس الأنثوي لأؤمن بالمعجزات..

يقول لي جدي إنه يرى العالم من خلالي. أووف، هذا الرجل يستمرّ بتصعيب الأشياء عليّ، سابقاً قال  لي “إذا غادرتِني يغصّ قلبي” والآن هذا، لماذا يعقّد شروط الحب في نظري، ويجعل المشاعر أقلّ من هذه “الغصّة” قاصرة وممسوخة؟!
جدتي من ناحيتها تردّ عليه عند كل جملة مثل هذه: “جمال، توقف عن المبالغة، الحب فعل”.
يا للمرأة، ها هي ترفع الدوز أعلى أعلى ..
لقد دمّرني هذا الاثنان!!

تتوقف الحافلة في غير مكانها ويقول لنا السائق: لا أستطيع الذهاب أبعد.
سيضطرني هذا للمشي. صحيح.  لكنني سأحترمه منذ الآن؛ رجلٌ يعرف حدوده، ينصاع لاستطاعته ، يقف حيث يجب أن يقف، ولا يقول لي: “أحبكِ”..

أمشي إذاً مضطرة، ومع تزايد سرعة خطواتي أمضي في هذا النص أبعد أبعد ودون أيّة وجهة محددة في السرد أو القدمين.
تتسمّر عيناي وأصابعي على شاشة هاتفي، معطية الانطباع للمارّة أنني أحادث حبيباً في مربع أزرق، بينما لا يخطر في بال أحد أنني في حقيقة الأمر أحادث “روحي”..

قصص الحافلات ليس لها نهاية
وقصصي أيضاً…

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن سارة حبيب

سارة حبيب
شاعرة وكاتبة سورية، خريجة كلية الآداب في جامعة تشرين، قسم اللغة الإنكليزية، صدر لها ديوان شعر واحد "النجاة حدث ممل للغاية" 2017، تكتب الشعر والمقالة، وتترجم عن الإنكليزية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *