آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » تَطَهّر
لوحة للفنان شادي أبو سعدة

تَطَهّر

أمر عادي أن تنزلق قدماي، أو أفقد اتزاني فانطرح أرضاً… قشرة موز، أو حفرة خبيثة، أو حجر تقذفه يد شقية إلى عرض الشارع، فتتشكل لحظة البداية للحدث المأساوي والمضحك في آن واحد… لكن أن يسقط جسدي سقطة مفاجئة وتفشل كل محاولاتي في أن أقف على قدميَّ لأدب بهما على الأرض مرة أخرى، أن أشعر أن جسدي أصبح ثقيلا كجبل، فذلك أمر غير عادى، حدث في يوم أشرق بشمس طازجة، لحظتها امتدت يدي تقبض الفراغ وتتكئ عليه، مال إليها شخص يشدها/يشدني،  ولما لم يوفق استعان بآخر، والآخر استعان بآخرين، حاولوا جميعاً أن يرفعوا جسدي، أشفقت عليهم وهم يقذفون صيحة جماعية تشعل الحماس فيما بينهم.

“هيلا… هوب”

كرروا المحاولة مرات ومرات، الخلق من كل صوب وحدب تجمعوا فرقاً تتبادل مساعدتي، حط آخرون على جانب الطريق يتبادلون اللفائف والحكايات والموعظة، اتخذ رجل زاوية، رش الأرض بماء، والفضاء ببخار ماء يغلى، وقرقعات أكواب زجاج، وهتاف ممطوط لصباح ندى… أقسم أن أول كوب سيكون لي وعلى حسابه الخاص إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولا، الشمس كانت تسبح في السماء… فتية آمنوا أن الأمر سوف يطول، فانتحوا جانباً، خلع أحدهم فردة شرابه، دس فيها خرقاً من نفايات المكان، حتى أصبحت مستديرة. ساحرة. مجنونة، وراحوا يركلونها فوق حفر الشارع.

عجوزان لملما التراب وسوته أكفهما المعروقة مربعاً ليلعبا السيجة، ارتفع صوت صياحهما الطفولي والكلاب تموت تحت أيديهما.

“هيلا… هوب”

الشباب تبادلوا الأدوار في محاولة لرفع جسدي، قدم لي الرجل كوب الشاي، رفع كفيه إلى السماء متمتماً “ربنا يجعلها فاتحة خير”، امرأة جاءها المخاض فشمرت أخرى خبيرة، شدت ستارة إلى جوار أحد الجدران، قامت بتوزيع الدوار على النساء إلى أن يأتي الله بالفرج، اقترح شاب أن يتم استدعاء الإسعاف فزجرته المرأة الخبيرة بنظرة قاسية:

“هيلا… هوب”

اشتعلت اللفائف مع شفطات الشاي، تعارك صبية كانوا يلعبون (الرَّفة)، أتى بائع ترمس وبائع صميت، وشخص كريه وضع طاولة على حافة الجمع، التف حوله صبية يلاعبهم (التَلَتْ ورقات):

“هيلا… هوب”

تكونت دائرة بشرية حول رجل يضع يده في فمه فيخرج بيضة، يرفع قبعة قذرة من فوق رأسه، يقلبها ذات اليمين وذات الشمال، بمهارة يطوحها في الفراغ ويلتقطها، يضع يده في تجويفها فيخرج حمامة، يطرقع الرجل الذي منحنى كوب الشاي، يطوف بين الجمع… زحام، جماعات تذهب وجماعات تأتى:

هيلا… هوب”

درويش يحمل مبخرة، يقذف إليها حفنات بخور فتفح دخاناً كثيفاً، يتشكل أمام عيني كائنات خرافية… “جلا…جلا”، صاحب القبعة أخرج غراباً، بعدها أخرج بومة وخفاشاً، رجل غَمَزَ لامرأة وانسلا بعيداً عن الجمع:

“هيلا… هوب”

انفجر صراخ داخل الخيمة، والمرأة الخبيرة كانت تأمر صاحبة الصراخ بنبرة جافة (احزقى)…(وأوأ) طفل وليد تبعته زغرودة المرأة الخبيرة، ابتهج الجمع المحتشد حولي، أطلت امرأة من فتحة بالخيمة وقالت: ولد، صفق الصبية وكانت شمس تسبح في السماء… مضت قطارات وأتت قطارات تلفظ ركابها، يتجمعون حولي يحاولون رفع جسدي: هيلا… هوب

رعشة هزت جسدي النحيل، فاجأني ميل شديد للتقيؤ، أشرت فأفسحوا أمامي متسعاً… تقيأت شجراً ونخيلا. أحجاراً وأرصفة، وكلبة جرباء كشرت عن أنيابها التي نهشت بهم ساقي ذات مساء… تقيأت قنابل، شظايا وأعيرة نارية، جثثاً وخرائب، فر الجمع المحتشد حولي يلوذون بحوائط تعصمهم، بينهم امرأة تحمل مولوداً.

شعرت أخيراً أن جسدي قد صار خفيفاً، نهضت رشيقاً أقف على قدمي، أركض وراء الجمع أسألهم: لم تركونني وحيداً؟

 مجلة قلم رصاص الثقافي

عن عبد العزيز دياب

عبد العزيز دياب
كاتب وقاص مصري، عضو اتحاد الكتاب العرب، صدر له: "صبيحة تخرج من البحر" رواية، "رسم الريح" مجموعة قصصية، "باب البحر" رواية، "عين مسحورة" رواية، "ضرورة الساكسفون" مجموعة قصصية، حائز على عدة جوائز أدبية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *