آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » امرأة في الشّارع

امرأة في الشّارع

يبدأ كلّ شيء من جديد عند مفترق الطّرق…

كانت يداي تحترقان من حرارة الفلفل الذي قطّعته قطعا صغيرة جدّا. مع ذلك رحت أقلّب فنجان القهوة السّاخن بين أصابعي. وضعت قطع الثّلج أمامي وكأنّني أستنجد بها، ثمّ أخذت ألقي بها واحدة تلو الأخرى كقرابين أتضرّع بها إلى فنجان القهوة الذي لم أرتشف منه إلّا قطرات. شيئاً فشيئاً، اكتسب الفنجان برودة قطع الثّلج وارتاحت أصابعي لملمسه، لكنّ لون القهوة بَهُت وكأنّه تعمّد التّخفيف من سواده.

عند إشارة المرور، اختفى الضّوء الأحمر عدّة مرات، وأنار بعده الأخضر عدّة مرات أيضاً. لكنّني لم أفكّر بالعبور إلى الجهة المقابلة. لم أكن الوحيدة التي لا تعبر، مع أنّني كنت أراقب الأضواء. هو أيضا كان هنا. الفرق بيننا أنّني لم أكن أعيرها انتباهاً، ولم يكن تغيّرها بتلك الأهمّية لدي. لم أنتبه له في البداية. كنت أشعر بوجود ظلّه واقفا غير بعيد عنّي. ظننت أنّه واحد من الذين لا يملكون الوقت، يهرولون للحاق بلا شيء. لكنّه بقي واقفاً مكانه، مثلي تماماً، ينتظر عودة الضّوء الأخضر.

أتذكّر وجهه الأحمر المتعرّق. كان يتنفّس بعسر، وكأنّ حرارة ذلك اليوم كانت تغلّفه هو فقط من شعر رأسه إلى أخمص قدميه. كان يبدو وكأنّه عائدٌ من رحلة تسلّق جبال، أو كأنّه خرج لتوّه من فرن ساخن. لا أظنّه من نفس عالمنا.

وضع على أنفه كرة حمراء، تشبه تلك التي يضعها المهرّج في السيرك. ما أن لمح الضّوء الأخضر حتى ألصق على شفتيه ابتسامة مرحة، وقفز أمام السيارات المتوقّفة ليبهر سائقيها ببعض الحركات البهلوانية، وخفّة يده في اللعب بأسطوانة يتحكّم فيها بواسطة خيط طويل جدّا. تساءلتُ حينها إذا ما كان السّائقون فعلاً بحاجة إليه كي يسلّيهم، وما إذا كان هو الآخر بحاجة لممارسة هوايته هنا في هذا المكان بالذّات. لربّما كانت طريقة لإجبارهم على مشاهدة فنّه. فكّرت في أنّني لو فعلت نفس الشّيء في بلادي لاعتبرني الجميع مجنونة أو مسحورة.

قد يرفع البعض صوت الموسيقى أو يضع سمّاعات، آخرون قد يُسمعونني أبشع الشّتائم. وقد يدهسني أحدهم ليريح العالم من ضجيجي. فمن يريد أن يستمع إلى شاعرة تلعن الحروب وغروب الشّمس وصراخ النّساء! 

كلّ ذلك لا يهمّني، فقد كنت مستعدّة للوقوف بمحاذاة مهرّج الطريق، وإزعاج السائقين ببعض الأبيات الشعرية المرتجلة. لكنّني قرّرت فجأة أن أعبر إلى الجهة المقابلة وأستمرّ في المشي. خفت أن أتأخّر على اللاشيء الذي كان ينتظرني.

لم تكن لي وجهة معيّنة، ولا هدف ألجأ إليه. كنت أريد فقط قتل الوقت كي أمضي أقصر عدد ساعات في الشّارع حسب توقيت الشّعور. لطالما كنت أطمح إلى الحياة، أمّا في تلك اللحظة كلّ ما كان يهمّني هو النّجاة… لم أفكّر في الأمر كذلك من قبل. أمّا الآن فأنا لا أريد التّفكير على الإطلاق. التّفكير في مثل هذه الظّروف قاتل. ربّما كانت الظّروف الوسخة محطّة مهمّة في هذه الفترة من حياتي، أو من نجاتي كما أردتها أن تكون، لكي أخلق توازني، لكي أبني شيئا ما، أكون أنا أساسه.

أحتاج أن أكون مثل القدر، أن أحرّك التّفاصيل التي أعيشها بخيط خفيّ، لا يراه أحد سواي. لكن هل يعقل أن يتحقّق ذلك في الشّارع؟ كيف لامرأة تتحوّل إلى محطّ لأنظار الغرباء في الشّارع أن تتحكّم في قدرها… لا أعلم إن كان عدم الشّعور بالأمان هو السبب، أم أنّ نظرات الرجال إلى جسدي قد تضاعفت فعلاً اليوم… زادت حساسية سمعي لعبارات الغزل الوقحة، يقول أحدهم بتثاقل: “أنت جميلة!” أمزحة هي أم أنّ على عينيه غشاء من الغباء يحجب عنه الرؤية بشكل جيّد؟ أين الجمال في وجهي العابس أو رائحة تعرّقي التي باتت تزعجني.

خفت كثيرا أن أقرف من جسدي.

ليلة صيفيّة باردة. أو هكذا كان يخيّل إلي. حمدت الله أنّ الشتاء ليس هنا بعد. مع ذلك، فقد كان البرد يقتحم جسدي بجرعات متفاوتة كقصف مستمرّ لمدينة لا يسكنها أحد. بقيت أبحث داخل رأسي عن أفكار دافئة لأُقنعني بأنّ الحرارة ترتفع والجوّ أصبح ألطف. ثمّ أنظر إلى المارّة من حولي. كانوا جميعهم يرتدون أقمصة بأكمام قصيرة، فلماذا أنا وحدي أشعر بالبرد وقد ارتديت سترة بأكمام طويلة؟ ربّما كان البرد بداخلي، وربّما نزل المطر ليغسل عني البرد أو ليسرّع في تجمّدي. وقد يكون  تساقط لنجدتي، لكي أتمكّن بسهولة من إخفاء دموعي، حتى لا يسألني أحد “ما بك؟”. ليس بي خطب، وبي الكثير. بي وجع رهيب وخوف يختلج كامل روحي وجسدي. بي صمت وسكون.

أنا كذلك المهرّج عند إشارة المرور. أقف عند حافّة النّهر، ألقي شعراً على الغرباء وأتعرّق.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن أسماء بوزيد

أسماء بوزيد
أسماء بوزيد كاتبة وشاعرة جزائرية من مواليد سنة 1996، مقيمة في فرنسا. صدر لها مجموعة قصصية تحت عنوان: "حلم بعيد"، عن دار حسناء للنشر والتوزيع، ولديها مخطوط ديوان شعري قيد الطباعة، تكتب وتنشر في عدد من المواقع الإلكترونية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *