تتشابه المواقف حدّ التطابق…
نفس المشهد يتكرّر. فنجان القهوة السّاخن أمامي، وظفري المكسور يحتلّ أكبر مساحة في يدي. هذه المرّة لم أرم سوى بقطعة ثلج واحدة داخل الفنجان. هذه المرّة لم يتغيّر لونه ولم يبرد. أتوقّف عند إشارة المرور مرّة أخرى، وأراقب نفس المهرّج. ألبس نفس الحذاء لكن هذه المرّة أرتدي فستانا. ماذا لو هبّت ريح غاضبة وارتفع الفستان؟ فكّرت في أنّني كان يجب أن أرتدي بنطالا، لكنّ الحرارة مرتفعة جدا. هكذا أتنفّس أحسن.
ربع ساعة. لا أسمع شيئا. أنا واقفة هنا منذ ربع ساعة، أو هكذا قرّرت ساعة هاتفي الصامت دائما. استدرت لأرى امرأة وحبيبها، كانا واقفين هنا حين وصلت. وصلت إلى هنا منذ ربع ساعة، وهي ماتزال واقفة بين ذراعيه. يبدو عليهما الحبّ. لكنّني لم أعد أؤمن بالحب !
سيفترقان أيضا. ربّما غدا، أو لاحقا هذا المساء. لكنّهما سيفترقان، أنا متأكّدة من ذلك، فجميع الأحبّة يفترقون، ويغدون غرباء من جديد، بعد أن كانوا يعرفون أكثر التفاصيل حميمية عن بعضهم البعض. بعدها ينتهي كلّ شيء. ثم تبدأ حكاية أخرى مشابهة لسابقتها. كلّ شيء في هذا العالم مكرّر مثل خوفي. خوفي الذي كان يأتي من الخارج، يهاجمني الآن من داخل داخلي…
صرخة مختنقة تخترق غلاف قلبي الهشّ، أشعر فجأة بعطش شديد، جفّ حلقي تماما وجفّت بئر أفكاري. خفت كثيرا أن ألتفت لأعرف مصدر الصرخة الثانية: “ماما !”… بنت صغيرة أقصر من جدائل شعرها، تصرخ بكامل براءتها وجزعها، فمها الصغير مفتوح عن آخره وكأنّها تحتاج لفم أكبر كي تصرخ أكثر. عيناها الحمراوان المليئتان بالدموع لا تريان شيئا غير جسد امرأة ملقى داخل بركة من الدم وبقربه آثار أقدام حمراء كانت أوّل ما تتبّعته نظراتي المرتعبة، حتى أوصلتني إلى ظلّ رجل ضخم يركض بعيدا بجنون ودون الالتفات خلفه.
تدافع الناس نحو حول جثّة المرأة وتحلّقوا حولها. أمّا أنا فقد اقتربت ببطء من الصغيرة، وكأنّني خائفة من خوفها !
“هل هذه أمّك؟”
“نعم… بابا كان يلعب معها، هكذا يلعب الكبار.” قالت وهي تمسح دموعها بسبّابتها الصغيرة.
بقيت أحدّق فيها دون أن أقدر على إضافة حرف واحد. شعرت بخدر في أطرافي وأنا أرى شرطيّا يحمل الطفلة بين ذراعيه، وهي تصرخ وتتخبّط كسمكة تريد بحرا يحتويها. كانت الصغيرة تريد أمّها. أنا أيضا كنت أريد أمي، وأريد أن أعود إلى طفولتي من جديد، ألعب كما يلعب الصّغار. الكبار ألعابهم تنتهي بالقتل. رحت أسحب الطّريق خلفي مرّة أخرى. حتى الأضواء أمست تشعرني بالخوف، وكأنّ الأضواء جميعها اتّفقت على الاجتماع فوق سيارات الشرطة كنذير شؤم.
تلاشى العشّاق الذين كانوا يملؤون المدينة. ربّما افترقوا أو عادوا من جديد. لم يتبقَّ من حولي سوى أشجار بلون الخريف وأضواء. الكثير من الأضواء المخيفة. فكّرت في الصغيرة التي فقدت أّمها… ليتها كانت معي ! ليتها كانت هنا لتجيبني عن أسئلتي الكثيرة، المتراكمة ثمّ المتناثرة. البسيطة منها و العصيّة. ستكبر الصّغيرة يوما ما، وستعي بأنّ الضرب ليس لعبة ممتعة، وبأنّ أباها لم يكن يحبّ أمّها. ستعلم بأنّ أباها جبان حرمها دفئ صدر والدتها، وستتغيّر نظرتها للعالم. أنا أيضا تغيّرت نظرتي للعالم، لكن ليس للأسباب نفسها. الشيء الأكيد أنّ قسوة العالم التي غيّرتني، سوف تغيّرها أيضا. مع هذا بقيت أحاول، وتُوّجت كلّ محاولاتي لإطفاء النيران بقطع الثّلج بالفشل.