آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » شيزوفرينيا.. قصة قصيرة

شيزوفرينيا.. قصة قصيرة

أحد المرضى في مستشفى الرشاد للأمراض العقلية، رجل في الأربعين اسمه إبراهيم عبدلله، كان له ابنٌ وحيدٌ في العاشرة، حسناً، هو يقول إن اسم الولد إسماعيل، لكن بطاقة الحالة المدنية تؤكد أن اسمه حسن، ولم يحدث أن دعاه أحد في يوم من الأيام (إسماعيل).

وعلى كل حال، كان الرجل قبل ايداعه في المستشفى قد أصيب بشيء يسمونه في الطب النفسي ( عدم التوازن بكيمياء الجهاز العصبي)، قال الطبيب: إنه نوع من الاضطراب الذهني تتأثر فيه قدرة المريض على الاتصال بالواقع، فيتعرض لنوبات من الهلاوس، مثل سماع أصوات غير موجودة تعطيه أوامر يجب تنفيذها بدقة.

والحقيقة أن هذه الحالة قد ظهرت عليه بشكل مفاجئ تقريباً، قبل هذا، كان شخصاً سويّاً، لكنه في الفترة القصيرة التي سبقت تدهور حالته، كان يميل إلى العزلة، منشغلاً بالعبادة في غرفته كل النهار تقريباً، وجزء من الليل، وفي النهاية هجر زوجته، لم يعد يهتم بشؤون منزله، ولا يخرج حتى للضرورات، وفي الواقع أن مثل هذه الأعراض هي علامات مرضية، لكنها تتعلق ربما بحالة بسيطة، من ذلك النوع الذي يزول بعد فترة قصيرة، أو ربما نوع من الكآبة يطول فيحتاج إلى العلاج، أو أي وسيلة أخرى تستهدف ازالة المسببات، لكن الرجل قال في أحد الأيام إن الله كلّمه، كلّمه كما حصل لموسى، وأن الكلام الذي سمعه هو كلام حقيقي، الفرق هو أنه لم يصدر من نقطة في جبل كما حدث عندما كلّم الله موسى من طور سينين، كانت الكلمات هذه المرة كما لو أنها شقت السموات السبع حتى وصلت لأذنيه وهو في غرفته، وكانت واضحة لا لبس فيها تقول: أنا الله، يا ابراهيم، الله رب العالمين.

وكان ابراهيم يردد قبل أن يودعه أهله  المستشفى في ذلك اليوم: إنا جعلناك يا إبراهيم  إماماً، جعلناك إماماً، إنا جعلناك إماماً يا إبراهيم. وكان للرجل ابن عم اسمه نوح، شاب ماجن يعمل سائق شاحنة، لايحترم أحدا، يسخر من كل شيء رغم سنينه الستين ولامقدّس عنده سوى متعته الشخصية، قال: لاتنقصك يا ابراهيم  سوى المعجزة.

ويبدو أن الشيطان هو من نطق هذا الكلمات وليس لسان نوح، فكان هذا التدخل العاجل هو من أوصل الأمور الى المنطقة الحرجة، فقد سمع إبراهيم في تلك الليلة صوتاً في الحلم: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. وكان يردد هذه الآية ويرتجف طوال فترة الصباح، ثم بكي، يرددها ويبكي، ثم وقف أمام ابنه عند الساعة العاشرة صباحا، نظر طويلا اليه،وكان يشعر بثقل الأمرالآلهي، فظهر مترددا بين التخاذل الذي سوف يغضب رب العالمين، فيخسر بسبب ذلك الدنيا والآخرة، وبين الطاعة التي هي الفوز الكبير برضا الله، وعلى كل حال، أقنع نفسه بعد ساعتين من التردد، قال: إن الله هو أرحم بعباده من أنفسهم.

ثم التقط من المطبخ سكيناً، وكان يردد: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. مشى بخطوات واثقة لغرفة حسن أو إسماعيل كما سماّه لأول مرة في ذلك اليوم، وكان الصبي قد أرتاب عندما رأى السكين في يد أبيه، وشاهد ابراهيم الذعر في عيني ولده الوحيد، قال: إن الله يأمرني أن اذبحك. ثم سكت لفترة وجيزة وهو غير واثق من طاعة الصبي، ثم أضاف: لكن الله في النهاية سوف يفديك بكبش عظيم، لن تسيل منك حتى ولاقطرة دم واحدة، أضع السكين على رقبتك للحظة، وهذا كل شيء.

وكانت زوجة ابراهيم السيدة هاجر قد سمعت هذا الحديث، ركضت كالمجنونة، سحبت ابنها خارج الدار واستغاثت بأهل الارض وأهل السماء، تجمع سكان القرية وكان إبراهيم يحمل سكينه ويردد بصوت عال مشحون بالصدق واللوعة: وفديناه بذبح عظيم، لاتخف يا إسماعيل، وفديناه بذبح عظيم يا ابني.

تجمع الناس فصار صوت إبراهيم متحشرجا، يائساً كما لو أنه يخرج من قاع بئر، قبل أن يقتادوه الى المستشفى. وخلال عام كامل من وجوده في  مستشفى الرشاد، لم يكن ابراهيم يطلب شيئاً سوى سكين. كان يكرر على الدوام بأنه نبيّ لكن نبوته ناقصة بسبب حبسه في هذا المكان، والذي لم يستطيع به الحصول على سكين لينفذ أمر ربه، وأنه لاداعي للخوف على اسماعيل الذي يحبه بالطبع، وانه سوف يضع السكين على رقبته فقط، وأن الله سوف يفديه بذبح عظيم قبل أن ينبعث الصوت من قلب السماء،: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن زهير كريم

زهير كريم
زهير كريم، قاص وروائي عراقي، يحمل الجنسية البلجيكية ويُقيم في بروكسل، مواليد بغداد 1965، صدر له: "قلب اللقلق"، رواية عن دار فضاءات عام 2011، "صائد الجثث"، رواية عن دار أثر عام 2014، "ماكينة كبيرة تدهس المارة"، مجموعة قصصيية عن دار المتوسط عام 2017، "فرقة العازفين الحزانى"، مجموعة قصصية عن دار الرافدين عام 2018، "رومانتيكا"، مجموعة قصصية عن دار سطور عام 2019، "غيوم شمالية شرقية"، رواية دار سطور 2020.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *