الرئيسية » رصاص خشن » في مديح النيكوتين

في مديح النيكوتين

التدخين سبب رئيسي للإصابة بسرطان الرئة. هذا ما تردد السيدة (جو ويل) دائماً، لكن زوجها السيد فيليب، لم يمت فعلياً بسبب ذلك، صحيح أنه أصيب بهذا المرض، لكنه مات لسبب آخر، سكته قلبية كما أشار تقرير الطببب الشرعي.

وفي تلك الليلة دخن آخر سيجارة عند منتصف الليل، ولم يكن الرجل الذي تجاوز السبعين يشعر بأية أعراض مريبة، أو ألم ما من تلك التي تجعل المرء غير متيقن في أنه سوف يستيقظ  بعد ساعات من النوم.

قبل هذا كان قد دخل الحمام، غسل أسنانه، أنهى نوبة سعال لازمته منذ مدة وذهب إلى الغرفة، دخل السرير إلى جوار زوجته ولم تكن السيدة حينها قد نامت بعد، شيء ما سبب لها الأرق، ربما تعودت أن لاتنام قبل أن  تردد  معزوفتها  اليومية، الكلمات التي تعبر عن قدر جيد من التبرم، أو ربما  لم تنم بسبب نوبة السعال التي قالت أكثر من مرة لزوجها بأنها شيء غير عادي، النوبات التي رافقها أخيراً البلغم، البحة التي فى الصوت.  بالإضافة لذلك فقدان الوزن والشهية. والحقيقة إنها ألحت تحت تأثير الشك على زوجها أن يراجع الطبيب، لكنه قال بأنه ذهب فعلاً للطبيب دون أن يخبرها، وأن الفحوصات لم تظهر أيّ شيء.

وفي الوقت الذي سحب فيه الغطاء، تمتمت السيدة كالعادة بشيء يتعلق بالرائحة الكريهة، كلاماً لم يكن واضحاً للزوج إطلاقاً لو كانت قد نطقته للمرة الأولى.

في الحقيقة مرت خمسون سنة على زواجهما، وهذا يعني أنها رددت هذه الكلمات عشرات الآلاف من المرات، لكنه فهم الجملة على كل حال، تعامل معها باعتبارها أسطوانة قديمة جداً، ولا شيء أكثر إثارة للفتور من  سماع أسطوانة لم تعد  تتفاعل معها الحواس، كلمات باردة تتناثر حروفها في الفراغ على الدوام، ولا داعي لبذل الجهد  لجمعها وتصفيفها كي تتحول لجملة في النهاية هي غير مجدية.

والسيدة (جو ويل* أدارت ظهرها مع زفرة، وهذا ماتعودتْ أن تنهي به تبرمها اللغوي. والسيد فيليب أراد  في تلك اللحظة أن يعترف لها بأنه مصاب بالسرطان من شهرين كما أخبره الطبيب. لكنه  في النهاية لم يجد سبباً معقولاً للنيل من السلام التي يغمرها في تلك اللحظات، أدار ظهره لها هو أيضاً ولم ينطق بكلمة. ثم مضت عشرون دقيقة قبل أن ينتظم  تنفس السيدة جو ويل، ونام هو أيضا.

وفي الواقع أن السيد فيليب كان قد ابتسم عندما نظر إليه الطبيب بخجل وأسف: إنك مصاب بالسرطان، وفي مرحلة متقدمة، آسف جداً، إنه لأمر محزن أيها السيد.  كان ذلك قبل شهرين  تقريباً، وكانت ابتسامته محيّرة وقتها، قرأها الطبيب على أنها حركة مليئة باليأس، الشيء الذي يحدث عادة لصياد عجوز غرق قاربه  في وسط البحر ولا أمل له في النجاة، أو لأن الرجل قد زهد في الدنيا على النحو الذي جعله لا يكترث للأخبار الصادمة، لكن السيد فيليب ابتسم، ربما لأمر آخر، ولم تكن هذه الحركة تنطوي على استهزاء بالنبرة الجادة للطبيب، ولا بالمقولة الشائعة، والتي ترددها زوجته كل يوم: إن التدخين سبب رئيسي للإصابة بسرطان الرئة، بل لأمر أكثر عمقاً، ابتسامة لها وقع الإحباط من فكرة العالم، على كل حال، رد على الرجل الذي كان مرتبكاً وهو يعدل من وضع نظارته ويعبث  بالتقارير التي كانت مبعثرة أمامه: أعلم ذلك، التدخين، التدخين، نعم التدخين. وقبل أن يخرج قال: أمسية مليئة بالصحة  أيها الطبيب.  وضع سيجارة في فمه، أغلق الباب خلفه، وأشعلها على سلم العيادة التي تقع  قرب مرآب الترام  شمال مقاطعة سكاربيك.

وفي اليوم السابع بعد مراسيم الدفن، كانت السيدة جويل قد انتبهت أن رائحة  النيكوتين  قد اختفت من الدار، لم تعد تشمها على نسيج الستائر، ولا في المطبخ، ولا في غطاء السرير. غمرتها مشاعر غريبة، اشتياق لتلك الرائحة الكريهة، اشتاقت  لمشهد صعود الخيوط من أنف زوجها، للغيوم الصغيرة التي كانت تتكون، للحوار الذي لاجدوى من تكراره، والذي كان يتحول إلى ما يشبه العراك في بعض الأحيان، المشكلة  التي  لم تجد لها حلاً طوال خمسين عاماً.

نهضت من السرير، فتحت دولاب الملابس، حشرت رأسها هناك، وبدأت تبحث عن الرائحة في ملابسه،  لكنها لم  تجد أثراً في أي مكان من المنزل، وكان شعورها بالحاجة  للرائحة يتفاقم. بحثت عن بقابا لعلبة سجائر، فتشت  في كل زاوية من البيت  لكنها لم تجد  ولا حتى عقب  سيجارة  واحد. حاولت أن تعود إلى النوم، لم تستطع، كانت الرغبة بشم رائحة التبغ  تضغط عليها بشكل مصيري. وعند الساعة الثانية  صباحاً، اتصلت  بتاكسي، حضر بعد عشر دقائق أمام البناية، هبطت من شقتها، قالت له: أيها السيد  خذني لمحل يبيع السجائر. تفهم  الرجل  وضعها، ثم قدمت مرافعة عجيبة، كلاماً ينطوي على الأهمية العظيمة للتدخين، باعتبارها تدخل في صميم التجربة الوجودية للبشر. وفي النهاية أنهت مرافعتها بملخص يقطع كل خلاف: عندما تكون مدخناً أيها الشاب، سوف تعطي  مثل هذه الأشياء قدرها. رد عليها بجدية، قال: أقدر مثل هذه الأمور سيدتي، فأنا مدخن ايضاً.

وفي تلك الليلة، انتشرت رائحة الدخان في منزل السيدة جو ويل، تكونت غيوم صغيرة في فضاء الصالة، قالت: إنه لشيء رائع أن  يجرب المرء  مثل هذه الأشياء السيئة، الحقيقة إنها ليست سيئة بشكل قاطع، بل الأجمل للمرء أن يكون مدمناً، الدخان يطرد الوحشة، رغم أنه بالفعل كما يقول الأطباء: سبب رئبسي  للإصابة بالسرطان.

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن زهير كريم

زهير كريم
زهير كريم، قاص وروائي عراقي، يحمل الجنسية البلجيكية ويُقيم في بروكسل، مواليد بغداد 1965، صدر له: "قلب اللقلق"، رواية عن دار فضاءات عام 2011، "صائد الجثث"، رواية عن دار أثر عام 2014، "ماكينة كبيرة تدهس المارة"، مجموعة قصصيية عن دار المتوسط عام 2017، "فرقة العازفين الحزانى"، مجموعة قصصية عن دار الرافدين عام 2018، "رومانتيكا"، مجموعة قصصية عن دار سطور عام 2019، "غيوم شمالية شرقية"، رواية دار سطور 2020.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *