آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » سرّ وردة

سرّ وردة

تُقدّم خطوة واجفة، تؤخّر أخرى وعلى العتبة تثبّت قدميها بضع لحظات لتهدّئ هواجسها المضطربة كأسرار قديمة تضطرم في جرّة مشقّقة.

ما الذي يفسد بالدّاخل ولا تراه؟

حالما يصِرّ المفتاح في القفل تتفتّح وردة العفونة فيتضوّع ريحها حامضا زنِخا في كلّ ركن مرتّب من الشّقّة، ورجًا نظيف عطِر، وعلى كلّ سطح متألّق للأثاث. ريح يهفهف على شعيرات الأنف المستثارة وحروف الأفكار المنفوشة، ويسيح كالماء المُهلك تحت الأقدام المطمئنّة..

الوردة أينعت في أُصيْص ما بغرفة النّوم لم تقتف له منبتا ولا تربة. تُعيد ترتيب أحداث الأيّام القليلة الماضية تفصيلا جنب تفصيل، تشوّش انتظام الأزمنة تقديما وتأخيرا وتجزئة، تنبش أدراج الذّاكرة هل يا ترى..؟ أم يا ترى..؟.

تعيد تأويل غمزة جارة لجارة، والمغزى الخفيّ لحمحمة ليست إلاّ خبيثة ندّت عن زميلة لحظة عبرت الرّواق أمام مكتبها. تستنفر قرون استشعار الحواسّ الستّ وأسوأ ما تتكتّم عليه النّوايا الحسنة فلعلّها تعرف بؤرة الفساد في جنّتها الصّغيرة، أو ربّما أهملت شيئا ما ينتن في زاوية غير مرئيّة لم تبلغها المكنسة أو الممسحة.. تمرّر على سطوح الأمكنة وتعرّجاتها عينين فاحصتين كماسح ليزر عسى ترى خيطا يصلها بنبع العفونة المتنامية أو سرب نمل يقفو أثر جثّة.. تقلّب يوميّا الغرف رأسا على عقب، حشيّة على وسائد، ملابس على وثائق.. تنكش كدجاجة مهووسة في العلب الشّخصيّة، تحت طبقات الملابس، طيّ الأدراج المقفلة لأفراد أسرتها.. عثرت على أوراق ماليّة يكنزها زوجها بمنأى عن منشارها اليدويّ يطلع مُنْفقا ينزل منفقا ولا تني تتبرّم بضيق ذات يده وشُحّ جيبه.. علبة سجائر وهدايا غراميّة لأكثر من عاشق ماجن في غرفة ابنتها المتحفّظة، حبّات “اكستازي”، وكتيْبات عن “ثواب القتل في الله” تحت طبقات الكتب المدرسيّة لابنها المطيع، وفواجع صغيرة أخرى.. إلاّ أصيص وردة العفن لا أثر له.

زوجها وقد فقد كلّ ماله السرّيّ الذي كان يهرّبه عنها لنزواته الصّغيرة غير المرغوب فيها تذرّع بالوردة وهجر غرفة النّوم. وطفلاها بعد أن غيّبا أثر اللُّقى يُضربان عن الطّعام المنزليّ ردّا على التّهم الباطلة لأمّ دخلت طور الهلوسة الشمّيّة حتى احترفت عادة التلصّص. الانقلاب الصّيفيّ لطقس الأسرة الأكثر استقرارا في الحيّ ينذر بعاصفة رمليّة، والعفونة تشتدّ اشتداد الحرارة المستمرّ. قدّرت أنّ سحرا أسود يقطّر سمّه الزّعاف في مكان ما من شقّتها الأنيقة، أوعينا حسودا أصابت أسرتها الجميلة.. صرفت المبلغ الذي صادرته من زوجها على عرّافة كانت تنعتها بالعجوز المخبولة. أبخرة تضوع، محرقات تصطفق على جمر الفحم، تمائم تُعلّق، تعاويذ تُتلى لم تُعِد الزّوج المكلوم على ثروته الفقيدة إلى غرفة النّوم ولا أنهت إضراب الجوع فأنّى تحلّ أمّ المعضلات؟

رئيسها في العمل وزوجته المهذار عرضا عليها زيارتها اليوم على العشاء لغرض لم يُفصحا عنه. نسيت أنّها دعتهما وتشبّثت بالسّؤال المُسوَّس: لماذا اليوم بالذّات؟ في الأمر سرّ فظيع وحده الله يعلمه.. أيعلمان بسرّ الوردة المتعفّنة في بيتي؟ ربّما خلطة مركّزة من موادّ التنظيف وسحابة مثقلة من بخّاخ العطور المنزليّة الصاخبة قد تُطمس فوح الحموضة الحادّ.

في الثّلاجة قراطيس لحوم مختلفة وموادّ محفوظة من غير تنضيد.. بعثرت وردةُ المخزون بحثا عمّا لا تعلم تحديدا. صندوق مريب مُجمّد مدسوس بحرص في بقعة غير مرئيّة. لم يبق إلاّ هذا.. !

تفحّصت الصّندوق فشمّت رائحة امرأة أخرى تنام كبياض الثّلج في ثلاجتها.. لكنّ زوجها لم يكن، فيما تعلم من حديثها عنه، مؤهّلا ليكون صاحب تلك القبلة الأميريّة المنتظرة.

سحبت السّرّ تحت قرْع طبلة القلب وقضقضة جراد الوساوس لأعشاب الظّنون. مسّحت طبقة الشّيب عن السطح اللّدِن.

ما هذا يا وردة؟

طاقم حليّ تخلب أحجاره الكريمة لبّها، وتروي قصّة الثّروة التي دفعت خفية عن زوجها من أجلها.

هرعت إذّاك إلى غرفة النّوم تتعثّر في خطاها المفجوعة، تتلفّت جنبيها ألاّ يتنبّه لها أحد. سحبت الدّرج البعيد عن كلّ عين نمّامة ويد فضوليّة. نبشت جوفه عن كلّ النّفائس المخبّأة. في القاع، علبة الطماطم المفتوحة تحوّلت إلى كبّة أزهار بنفسجيّة داكنة تُفجّر كلّ طاقاتها العفنة دفعة واحدة..

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن بسمة الشوالي

بسمة الشوالي
معلمة تونسية، صدر لها في القصة، "مزالق الحنين" عن دار الأطلسية للنشر 2008، "سؤال الحدث المقبل" 2010، "قناديل المطر" عن الدار التونسية للكتاب 2013، "تاء" عن دار ابن عربي للنشر 2020، وصدر لها في الرواية، رواية "ضمير مستتر" 2019 عن دار سحر للنشر.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *