الرئيسية » ممحاة » غير صالح للحب

غير صالح للحب

يتميز الفلاسفة بقدرتهم على إثارة الأسئلة، فالعقول المغلقة على البديهيات والمسلمات لا يمكنها أن تنتج المعرفة. فالمعرفة نتاج تفاعلي بين المعلومة والمتلقي، وقد استوقفتني كقارئ الكثير من المعلومات الفلسفية والسوسيولوجية في موضوع الحب.

في البداية كنت أنظر إلى ما تقوله الكتب بعين اليقين، ومع الأيام؛ وتراكم القراءات؛ بدأ ذلك اليقين بالتصدع، والانهيار. حاولت تمكينه بقراءات جديدة لإيريك فروم ومصطفى محمود وحنان لاشين وكريم الشاذلي وجاري تشايمان وشيري كارتر سكوت وجون غراي وغيرهم، إلا أن ذلك لم يجد نفعا!! لا بل اكتشفت أن وجهات نظر أولئك الكتاب في الحب مبنية على قراءات وتجارب شخصية محدودة، وملاحظات أو عينات من أوساط اجتماعية ضيقة. والبعض منهم ناقشوا مفهوم الحب من خلال مداليله في علم النفس وعلم الاجتماع، وليس من خلال مدلوله النفسي والاجتماعي. إذ أن مدلوله النفسي والاجتماعي لا يمكن ضبطه أو تحديده، فهو يختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن زمن لآخر أيضا. إلا أن ذلك لا يعني أن جهود أولئك الكتّاب ذهبت سدى. لقد حرّكوا الماء الراكد، وأثاروا الأسئلة، ورسموا لمفهوم الحب أطرا تمهد للدارسين مدخلا.

تلك هي حال الحب في الكتب، هو مجرد أفكار متباينة، تتداولها نخب المعرفة، في الواقع شيء آخر. إذ أن الاتصال مع الآخر هو اتصال بين عالمين، يبدأ بعيدا عن مركزيهما، مثل اللقاءات الحدودية بين الدول المتجاورة، عادة ما تتم في إحدى النقاط الحدودية، بعيدا عن مركز العاصمة. هذا يحدث كل يوم، تلتقي حدودنا مع حدود الآخرين، في السوق، في وسائل النقل، في الشارع الخ.. تلامس معرفتنا أطراف حدودهم، وتلامس معرفتهم أطراف حدودنا.

وهذه الملامسات المعرفية قد تولّد في نفس أحد الطرفين اعجابا، أو رغبة، أو اشتهاء، أو إثارة، هذه الحالات هي بمثابة طرق قصيرة لا يمكنها أن توصلنا إلى مركز الآخر. الاعجاب ممكن بشرط، إذا نشأت بين الطرفين علاقة ووصل كل منهما إلى مركز الآخر ولم يتراجع الاعجاب. لأن الاعجاب غالبا ما يتراجع ويصبح الآخر عاديّا بعد أن تقوم العلاقة بيننا وبينه. لذلك يجب أن نعرف حقيقة ما نشعر به اتجاه الآخر. المشكلة أن غالبية الناس لديهم ما يسمى في علم النفس التماثل الانكاري الجماعي أي أن كل فرد يعتقد أنه مختلف عن الآخرين، بينما هو في الحقيقة مثلهم. ولذلك كثيرا ما تفشل علاقات الحب، لأنها لم تكن حبّا، وعلاقات الزواج، لابل حتى علاقات الصداقة. لأن الصداقات هي نوع من أنواع الحب، ولا يمكن أن ترقى العلاقة إلى صداقة إلا إذا تواصل المركزان باهتمام ومودة. فالاهتمام أولا، في الحب والصداقة على حد سواء.

لقاءات الحدود في أغلب الأحيان يغلب عليها الادعاء، لذلك تجد الكل مهذب، مؤدب، أنيق، لطيف، كريم، شجاع، إلى ما هنالك من الصفات الحميدة!! وهذا ما دفع صموئيل جونسون للقول: إن معظم الناس يضيعون حياتهم وهم يحاولون اظهار محاسن ليست فيهم. هذه الأقنعة أغلب الناس يلبسونها في اللقاءات الأولى، وهي تعيق معرفتنا بحقيقة الآخر. وبالتالي تعيق الحب، لأن من لا يعرفك لا يستطيع أن يحبك، قد يعجب بك. هذا من ناحية. من ناحية أخرى يمكننا أن نسأل السؤال التالي: هل كل إنسان صالح للحب؟ أنا لا أعتقد.

لأن الحب حالة نفسية كليّة، أي أنه لا يجتمع مع نقيضه في نفس واحدة. وكذلك الكرم والشجاعة، هذه الحالات الثلاث تعتبر صفات كليّة. أي أن الشخص المحب لا يستطيع أن يكون قاسيا أو واشيا أو مغتصبا أو قاتلا، كما أن الشخص الكريم لا يكون قليل مروءة أو جبانا، والشجاع لا يمكن أن يكون بخيلا، وهكذا، فهذه الصفات تحكم أصحابها، وتتحكم بسلوكهم. بعد هذه المقدمة الطويلة قد يسأل سائل: ما هو الحب؟ الحب ببساطة هو انسجام كلّي بين مركزين.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن إبراهيم الزيدي

إبراهيم الزيدي
شاعر وكاتب سوري، عضو اتحاد الكتاب العرب، كتب ونشر في العديد من الصحف والمواقع والمجلات السورية والعربية، صدر له في الشعر: كلمات بلون الحب ـ ثم ليلى، ورواية «حب تحت الأنقاض».

شاهد أيضاً

“جمهورية يع” عندما يصبح الجميع مُقْرِفين!

القرفُ والاشمئزازُ عند الإنسان وسيلةٌ تطوريةٌ معقّدةٌ للحماية من المرض والموت عبر ردِّ فعلٍ آليّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *