آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ميت » طفلٌ لا زال في العاشرة.. تحية إلى الشهيد ناجي العلي

طفلٌ لا زال في العاشرة.. تحية إلى الشهيد ناجي العلي

فؤاد ديب  |  

كعادتنا كل صباح حين نخرج مما يشبه البيت نقف أمام ملصق جديد على أحد جدران المخيم لكننا هذه المرة وقفنا نقلد ذاك الطفل المرسوم في زاوية الكاريكاتير فشبك كل منا يديه خلف ظهره وأدار ظهره للآخرين فرآهم عن قرب أكثر، لم نكن نختلف ونحن صغار عن ذاك الطفل، لم يكن هناك فارق بين الصورة ومن يقلدها فالبؤس ينز من تفاصيل الجدار وقهر اللجوء يسيل من مسامات جلد أطفال وقفوا أمام ملصق في أعلى الجدار وقد كتب في أعلاه “لا لكاتم الصوت” ويسيل من الملصق خيط دم رفيع كي يشكل بركة حمراء يمتصها تراب المخيم كمصاص دم، حين صاح أحدنا مرتجفا وهو يشير إلى الملصق: الولد يبكي .. رفعنا رؤوسنا عالياً نحو الملصق وإذ بالطفل الذي يدير ظهره يبكي بحرقة ويحرك كتفيه مع كل نشيج ومع كل عبرة من دمع، كان طفلاً في العاشرة من عمره حين خرج من قريته، خرج وقد قبضت ذاكرته على تلك اللحظة وبنت حولها أسواراً عالية واختزنتها بكل ما فيها من وجع وظلم لذاك الطفل الذي سار حافياً لا يحمل معه دفاتر رسم أو علبة ألوان ولا حتى قلم رصاص لكنه وكلما أوغلت خطاه في المخيم كانت الجدران أوراقه وأزقة المخيم  نافذته التي يطل منها على الحكاية التي سيرويها لعالم قاس بما فيه الكفاية عالم رديء يستحق أن يثور عليه هذا الشاب النحيل الذي كبر كما كبر المخيم لكنه لم يحمل بندقية أو رشاشا بل حمل ما هو أجدى من ذلك بكثير حمل “قلم رصاص” بكل تناقض الكلمتين فقد كان يرسم بالقلم وتنطق لوحاته كما تنطق البندقية بالرصاص حتى تخيلنا أنهم استمدوا  تسمية قلم الرصاص من لوحاته، لوحاته التي شاهدها غسان كنفاني حينما زار مخيم عين الحلوة فأخذها ونشر له واحدة  في مجلة الحرية آن ذاك فما كان من أصدقائه إلا أن دلقوا فوق رأسه صناديق الليمون والبرتقال احتفالاً منهم بصديقهم الذي أصبح فيما بعد أشهر رسام كاريكاتيرلكنه بقي طفلا يدير ظهره للعالم ويرى الحقيقة أمام عينيه.

كاريكاتير ناجي العلي

هذا الطفل الذي أدار ظهره مرة واحدة وأخيرة بثيابه الرثة وفقره المدقع وعينه الثاقبة التي لا تخيب، لم يكبر الطفل بل صار صوتاً وسوطاً يجلد كل من تسول له نفسه الابتعاد عن “صراط فلسطين” ومع كل كاريكاتير وصوت وسوط كانت تزداد ضغينتهم ويصب الحقد ناره في صدورهم فأرسلوا من يهدده بأن (سأذيب أصابعه في الأسيد) هكذا هدده “زعيم” الثورة الأسطوري؟! فابتسم ناجي العلي ساخراً وكيف للفدائي أن يخاف أو أن يرتد قلبه عن فلسطين، كان بسيطاً كأي لاجئ، صلباً كفدائي، رائعاً كفلسطين كان حقيقياً كالولادة والموت، خرج من مخيم عين الحلوة بعد الاجتياح عام 1982 ولم يعرف العدو حينها أنه كان بين اللاجئين الذين جمعوهم في ساحة المخيم، خرج ناجي العلي ليقول الحقيقة رسماً كاريكاتورياً على لسان فاطمة التي لا تهادن وزوجها الفلسطيني البسيط النحيل بيديه الكبيرتين الخشنتين وشاربه الكث وهما يقاتلان وحدهما العدو الصهيوني والأنظمة العربية و”فساد” منظمة التحرير الذين مثلهم برسم رجل سمين بأرداف مترهلة فانزعج منه الجميع دون استثناء وأرسلوا له من يطلق عليه النار في رأسه من مسدس كاتم للصوت في لندن عام 1987 في الثاني والعشرين من شهر تموز كي يدخل في غيبوبة حتى التاسع والعشرين من شهر آب من العام نفسه حين عاد إلى الشجرة قريته في فلسطين تاركاً حنظلة طفلا يدير لنا ظهره لا يكبر ولا يتغير حتى يعود حاملاً ثورته رسوماً ورثها عن ناجي العلي الذي قال “الي بدو يكتب لفلسطين أو يرسم لفلسطين بدو يعرف أنه ميت”.

هكذا هم أساطير الزمان أنبياء المنفى يغيبون قسرياً في السجون أو في الأسر، وقد تكسر أصابعهم أو تفجر سياراتهم، كما فجر العدو الصهيوني  سيارة غسان كنفاني في بيروت أو يطلق عليهم الرصاص في نهاية الأمر كمحصلة للأسر، فقد أسر ناجي العلي وهو طفل في فلسطين من قبل العدو الصهيوني.

واعتقتلته السلطات اللبنانية أكثر من مرة وتهمته فلسطين! ليهاجر إلى الكويت ومنها إلى لندن كي يطلقوا عليه الرصاص في أحد شوارعها  بعد عجزهم  عن ردعه..ناجي العلي

وقفنا طويلا أمام ملصقه، كنا صغاراً كحنظلة نرى رسومه ولا نعرف سوى اسمه مثلما نعرف فلسطين كأنهما اسم واحد أمام مرآة، وبدأنا رحلة القراءة عن ناجي العلي صاحب الكاريكاتير اللاذع الذي وقف -بقلم رصاصه وورقة من دفتر رسم – أمام أصحاب مشروع التسوية المفرطين، لكن أكثر ما يؤلم أنك حين تكتب في محرك البحث غوغل اسم ناجي العلي يظهر لك ملخص عن حياته “تاريخ الميلاد 1938 اسرائيل”!

ناجي العلي ولد قبل هذا الكيان المسخ لكن هذا الشيء هو أبلغ تعبير عما وصلنا  إليه فقد هزم مشروعنا لدرجة أنك تشعر أن ناجي ما زال ماشياً على الرصيف في لندن والقاتل يكرر المشهد ويطلق النار على رأسه كي تخرج فلسطين الفكرة  من ثقب الرصاصة فيأبى ناجي ذلك فيعيد القاتل الكرة وهكذا… هكذا بكل بساطة هزمنا وتنازلنا حتى عن ذكر مكان ولادته في فلسطين، فلسطين التي أصبحت أراض متنازع عليها وأصبحنا أكثر من شعب، شعب الداخل 48، شعب الضفة وشعب غزة وشعب الشتات وشعب أوروبا.. وشعب أمريكا…الخ و ما بقي من أرض فلسطين التاريخية قطع وقسم ورسم السفهاء كرسياً على ورق مسودة وتقاتلوا من سيجلس عليه وقسموا القطعة الباقية حتى ليكاد الشعب من شدة ضيقها أن ينام واقفا؛ فماذا كان سيرسم ناجي العلي لو أنه موجود أو عرف أن اسم  مكان ولادته تغير وأصبح الكيان الصهيوني هو مكان ولادته هذا الكيان الذي أمضى حياته وهو يرسم أبطالا يقاتلونه وما زالوا في كل مخيم يرفضون الاعتراف بهذا الكيان… قرأنا كثيراً عن ناجي العلي والآن نعود كي نتصفح رسومه “محمود خيبتنا الأخيرة ويقصد محمود درويش… عجبني مقالك عن الديمقراطية شو عم تكتب اليوم، عم أكتب وصيتي” والكثير الكثير وما زلنا حتى اليوم نشاهد رسومه وكأنه رسمها أمس وما زلنا نسمع نشيج حنظلة حزيناً في زاوية الرسم  وعلى الطرف الآخر ما زلنا نسمع قرع كؤوس المحتفلين بتغييبه، العدو الصهيوني، الأنظمة العربية، ومنظمة التحرير بكل من فيها اليوم… كلهم ما زالوا يشربون الأنخاب احتفالا بموته.ناجي العلي - فلسطين - موقع قلم رصاص

يقول ناجي في مقابلة معه: “لست مهرجاً ولست شاعر قبيلة إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث أن تعود و لكنها تكفي لتمنحني مبررا لأن أحيا…أنا متهم بالانحياز  وهي تهمة لا أنفيها، أنا لست محايداً،  أنا منحاز لمن هم تحت؛  الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى ولمن يقضون لياليهم يشحذون السلاح في لبنان  الذي سيستخرجون به شمس الصباح، ولمن يقرؤون كتاب الوطن في المخيمات) من أجل هذا ما زال فقراء الوطن الكبير وفلسطينيو المخيمات يقدسونه وما زال المخيم يرتدي السواد بعده.

 شاعر فلسطيني ـ ألمانيا |  خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …