آخر المقالات
الرئيسية » رصاص حي » عن غرفة الشاعر

عن غرفة الشاعر

 إبراهيم حسو  |

الغرفة الأولى في منشأها نص، وإن غاب أو يغيب عنها كاتبها، لكن دائماً ثمة حضور أفكار هنا وهناك على صيغ تدابير منتظمة ترسم الظلال الآدمية للمكان الأول الأبدي الذي لا يغيب إلا لتكون حضوراً قائماً، حضور يفض النص على مصراعيه ويمتحن لذته الأبدية، نص يتشكل من تراشق البياض مع ذلك الحبر الهلامي الذي ينزف كما تنزف الجدران بياضها الطيني المتشقلب.

نصٌ بجدران متثائبة، والمفرداتُ كائناتُ مستحدثة تبحث عن كاتبها، بشوقِ البشري إلى معرفة الله, وبتوق الكلمات في الطيران بعيداً بعيداً، الغرفة الأزلية الأولى المصنوعة من الغرين الأبدي الأول، المتشحة بعجينة الغبار التي كانت تستجلب من الأعالي السحيقة هناك على كاهل تلة من التلال التي لم تعرف يوما جلجلة الريح عليها، غبار أزليّ بدوره من نثارات الأزليين الذين ما برحوا يلقوننا الحروف الأولى لكتابة الشعر, الغرفة النورانية التي تغسلني من ذنوبي الأبدية كما تضمني جدرانها الصلصالية الفياضة بحكايات لا تحكي إلا عن الزمن الذي يقايض الجميع ويفاوض ( صوت) الصمت الذي يخيّط الصمت نفسه.

غرفتي الفولاذية التي إذا هزهزتها أو لمست قضبان الحنين فيها تكلمت عنك وعن خيباتك وعن الأصدقاء الصلصاليين اللذين ينهشون روحك دون أن تدري، فيما تنذرك الطاولة الصديقة الوحيدة، المستكينة في زاوية العدم بالكتابة للعدم أو دونه، كرسيك العالق بسلك من خيش الهواء المبسوط هكذا في ارض خربة عوراء  يدعوك إلى الكتابة مجدداً، بينما القلم الفجّ الأول الخطير بلسانه يعلّم الضوضاء الأسير لغة الكلام الأولى للجماد والنبات والكون، وفي الأعالي القريبة كلمات تتعلق من عرقوبها في سقف ينحدر نحو تلك الخشبات المؤجلة التي لا تملك إلا أن تكون أماً لأربعة جدران وطاولة بأربعة أرجل منخورة منذ ولادتها.  

غرفتي الأولى الراكضة معي أينما قصدت، في دمشق تظل الغرفة الأولى مطروحة بين أغراضي التي أحشرها في أوراق تحتضنها حقيبتي البلاستيكية القديمة، فتمد بجدرانها اللولبية بين حين وحين وترمق معي جبال الاسمنت وهي تفترس الطبيعة الدمشقية المنهكة منذ ألاف السنوات، تقول لي غرفتي أتكون لنا هنا غرفة مثلما كانت لنا هناك في الشمال السحيق، أقول: هذه دمشق.

في غرفتي الأولى كتبت القصيدة الأولى، دون أن تتدخل الطاولة المسكينة في إضافة أو شطب أي حرف، في غرفتي الأولى كانت الجدران تكلمني عن صور لكبار الشعراء، معلقة هكذا منذ الأبد، تحاكي روحها بفم الصمت الذي أصبح من لون الجدران المشرشرة في تصميم أخطبوطي لا مسار له ولا محيط، جدران بلون ازرق لا لون له، يغطي الأوراق المصطفة الخائبة في دفاتر محطوطة بدورها على تلك الوحيدة الأبدية ( المكتبة) التي كتب عليها أن تخفي فشل الشعراء ومشروع كتابة أول قصيدة، وتفضح أول قبلة سقطت من فم الشاعر وهو يقبّل أول عدم.

شاعر وناقد سوري  | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …