آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » «العرجاء» قصة قصيرة من اليمن
WadiSuraHumans

«العرجاء» قصة قصيرة من اليمن

فكرية أجمد شحرة  |  

الكاتبة والقاصة اليمنية فكرية شحرة
الكاتبة والقاصة اليمنية فكرية شحرة

 

جلست في ظل الشجرة منكفئة على نفسها كعادتها.

كانت أصابعها تنغرز في التراب الرطب دون أن تشعر. يتردد في مخيلتها صوت الراعية التي مرت أمامها قبل قليل وهي تسخر منها قائلة:

–       من الأحول الذي سماك “بدور”؟ لو سماك “قدور” كان أنسب، وقدور يملؤها السخام أيضا!

كانت قد رفضت أن تترك مكانها للراعية الممشوقة، فصفعتها بعبارات السخرية والاستنقاص ثم غادرت.

فكرت: ليتها كانت بدراً واحداً!

 لكن لماذا تبتئس من اسمها؟ الجميع يناديها بالعرجاء، ولا علاقة لها ببدور هذه.

كانت بدور تظل في الوادي أغلب يومها، ترعى بقرة الأسرة “ملك”، والتي تعتقد أمها أنها أكثر نفعاً من بدور نفسها؛ فهي على الأقل تدر اللبن والسمن.

وكانت تكره عودتها إلى بيوت القرية، تكره مرورها هي وبقرتها أمام فتيات القرية وفتيانها، ونظرات السخرية من مشيتها.

 تكره تلك التعليقات التي تقارن بين خطوها وخطو بقرتها الحامل.

 لم تكن هكذا من قبل.

 تتذكر جيداً إلى وقت قريب أنها كانت ترفع الحجارة من الأرض، وترمي بها فتيان القرية حين يتندرون عليها، وتلقي في وجوههم أيضاً ما تيسر من السباب واللعن والشتائم.

لكن حين أصبحت فجأة فتاة شابة، أصبحت تستحي من خطوها الناقص. كما تستحي أن تقف كي تقذف الحجارة على هؤلاء السفهاء، وتستحي أنها هكذا.

تحاول وهي تعرج في مشيتها أن تنكفئ على نفسها حتى لا يلاحظ الآخرون ذلك الصدر المنتفض في جسدها الناحل.

 كانت شابة ككل الفتيات في القرية تتمنى أن تسمع كلمة عذبة تمتدح شيئاً منها، أي شيء؛ فهي ليست مسخاً أو غولاً قبيحاً إنها فتاة، لها قلب حالم مثل كل القلوب. تتمنى أن تكون مرغوبة ومحبوبة، وليس محل السخرية والتندر طوال الوقت.

كل يوم، على مشارف بيوت القرية، تعد نفسها للمخاض اليومي العسير.

فنساء القرية يحببن أن يتبادلن الأحاديث في الأزقة الضيقة بين البيوت، ويراقبن الذاهبين والقادمين.

حتى رجال القرية وشبابها يترصدون قدوم الراعيات من الوادي كي تحظى الجميلات بالإعجاب والخاطبين. إلا “بدور” التي تحظى بكلمات الرثاء والشفقة، وهي أشد إيلاماً من كلمات السخرية والاستهزاء.

فكرت: حتى الكلمات الجميلة هي أرزاق أيضاً، يحظى بها بشر دون آخرين، حتى الحب حين يأتي يُرزق به آخرون غيرها.

هي لم ترزق سوى هذا القلب الطيب الذي ينسى الإساءة ويتحمل الألم، والذي لا يبحث عنه أحد.

وصلت إلى البيت المظلم بعد الغروب. هكذا هو قلبها الآن مظلم و بارد، لم يخلق لها سراج يضيء قلبها الحزين؛ فهي فتاة عرجاء قليلة الجمال. من يفكر في راعية تظل طوال يومها في الوادي، تداعب التراب بأصابعها؟!

سمعت أمها تناديها من وراء الدار فخرجت مسرعةً نحوها، وابتسمت في ذلك الوجه المتغضن:

–  عدت يا أمي، والبقرة في أحسن حال؛ أكلت حتى شبعت، وأحضرت معي عشاء لها من الوادي.

هزت الأم رأسها باستحسان:

– أحسنت يا بنيتي. اذهبي كي تساعدي زوجة أخيك في إعداد العشاء، سيصل إخوتك وأبوك بعد صلاة المغرب. تحركت بدور وهي تبتسم بمرارة.

هكذا كل يوم … تمر كل الأيام برتابة قاتلة منذ سنوات، منذ بدأت تحصيها عداً، علّ جديداً يحدث في هذه الحياة التي تمر كطاحونة تأكل الهواء فلا تشبع أو ترتوي.

تتمنى في أحلامها السرية، وهي تتمدد في فراشها القاسي، أن تصبح فتاة مكتملة لم تخلق بساق أصغر من أختها، تتمنى أن ترقص وتدور حول نفسها، أن تضحك يوماً من قلبها.

حين تستيقظ مع الفجر تحاول جاهدة أن تكون الأولى في الوادي المتشعب، وأن تختار أصعب الأماكن وأعلاها حتى تبقى هناك بعيداً عن الأنظار والأسماع، تتأمل في الاتساع الرحب للأرض، وتدندن بصوت حزين:

“يا رب من كان له حبيب لا تحرمه من حبيبه”.

ذلك اليوم اختارت مكاناً لا تصل إليه الراعية الممشوقة القامة طويلة اللسان، واكتفت بإطلالة للمكان تخلب القلب لجمالها، وتنهدت أنها تشعر بجمال الكون كله فلماذا لا يشعر من حولها بجمالها.

وعادت تفرك ذرات التراب كأنها تبحث عن حظها الضائع. تنبهت لوجود شخص في المكان غيرها هي وبقرتها، ونهضت ليطالعها وجه ذلك الرجل.

كان يبدو شاباً ثلاثينيّ العمر، يحمل في يده فأساً صغيرة ويحاول أن يستطلع المكان. كان يبدو غريباً عن القرية أو أنه ضلّ طريقه إلى مكان يقصده. لم تستطع منع نفسها من التدخل الفضولي فصاحت به:

– يا أنت، هل تبحث عن مكان؟!

التفت الرجل نحوها وتعلق سؤال في نظراته: ماذا تفعل هذه المرأة هنا، بعيداً عن القرية كثيراً؟!

 اقترب منها وهو يقول:

– لا يا أختنا، كنت ماراً فحسب، أنت ماذا تفعلين في هذا المكان المنقطع؟

لم يخالجها الخوف من رجل غريب في مكان بعيد، فقالت وهي تجلس تخشى أن يلاحظ عرجها:

– أنا أرعى بقرتنا، هناك، والمكان ليس منقطعاً، الناس يمرون مثلك، ثم إنني أحب أن أقوم بالرعي وحدي.

ضحك باستغراب:

–  هاه! وحدك! ولماذا وحدك؟ هل تنتظرين شخصاً ما؟ وابتسم بخبث.

أدركت تلميحه، وخالجها شعور بالراحة، هو يعتقد أنها مرغوبة من شخص افتراضي فضحكت وهي تقول:

–  لا، لا أنتظر أحداً، ولا أحد يرغب أن أنتظره، وتنهدت.

فكر الرجل: تبدو هذه الفتاة على الفطرة بريئة ومسلية. جلس على حجر قبالتها وهو يقول:

– لماذا؟ هل رجال قريتك كلهم مصابون بالعمى؟

أجابت بحزم وهي تنهض من مكانها:

– لا يا هذا، أنا مصابة بالعرج ولا أحد يرغب في عرجاء وغير حسناء.

ابتعدت وهي تعرج في مشيتها تكاد تلامس الأرض حزناً وإحباطا. أدركت أن الرجل قد يلقي كلمة مشفقة تنغرز في مسامعها وينصرف؛ لكنه لحق بها يحاول أن يحاذيها … لقد أحس بالشفقة نحوها.

إنها في أعماقها تشعر بالنقص والعجز. كان يحاول أن يخفف عنها ذلك الإحباط الذي ارتسم على وجهها الأسمر المكتنز. قال وهو يقف معترضاً طريقها:

– لماذا تقولين ذلك؟ أنت لست أول عرجاء على كوكب الأرض، هذا نقص جسدي بسيط، ارثي لحال من يعانون نقصاً روحياً أو نفسياً. أنت هنا تتمتعين بالجمال حولك. غيرك لا يرى في الكون أي جمال.

جلست بدور. كلامه يخترق قلبها. إنه يعتقد أن غيرها من يستحق الرثاء أو السخرية، إنه يراها تتمتع بشيء ما، روحها الجميلة.

لم تشعر بالوقت يمر، لأول مرة منذ سنوات لا تشعر به يمر على صدرها مجنزرات ثقيلة. لقد مر كالسحاب بارداً ومشبعاً بالرحيق.

جلسا يتحدثان في كل شيء تقريباً، عن القرى البعيدة والقريبة والأمور القريبة والبعيدة.

نهض وهو غير راغب في النهوض، فكر: إذا كانت هذه الفتاة تملك شيئاً، فهي تملك قلباً طيباً وحنوناً ربما لا يعرفه من حولها. أخبرها أنه عائد إلى قريته، وأنه إذا مر من هنا فسيسلم عليها بكل تأكيد.

أصبح لبدور شيئها الخاص الذي تنتظره بشوق، وترسم خيالاتها حوله؛ إنه “صالح”، حتى لو لم يكن يفكر فيها أو يدري في أي واد هلكت. تفكر فيه وتحلم بحبه لها.

 ولأيام طويلة، كانت بدور تذهب إلى ذلك المكان، تضع الكحل في عينيها وتنتظر أن يشرق هو من أي مكان، أن تمتع عينيها بطلعته السمراء وعينيه الحنونتين.

لقد أحبت عينيه كثيراً، كانتا الوحيدتين اللتين نظرت إليهما وأحست بجمال روحهما. كانت تنتظره، والانتظار مسامير في القلب تدق مع كل لحظة تمر بلا أمل في الظهور.

 لكن بدور في انتظارها الحزين تشعر بلذة الشعور الجديد؛ أن تحب وأنت تشعر بالأمل، أن هناك من يهتم  بها فعلاً، وربما يبادلها الشعور.

وكأن الأقدار أشفقت على بدور، كما يشفق عليها كل من يراها تسير. ظهر صالح ذلك اليوم. كان قادماً من  بعيد لا يحدد وجهة معينة لنظراته المستطلعة. ربما نسي صالح الفتاة العرجاء أو نسى وعده الأخير لها. خشيت بدور أن تظهر لهفتها فيقابلها برود صالح. كان يبدو مشغولاً. رآها فجأة أمامه وتذكرها، صاح كمن وجد شيئاً لا يتوقعه:

–       بدور، كيف حالك؟

واستدرك: لقد مررت كي أسلم عليك.

لا تدري كيف قفزت الكلمات من بين شفتيها رغما عنها. همست بفرح يطل من عينيها:

–       كنت أنتظرك منذ ذلك اليوم. وغمغمت بحياء:

–       قلت ربما تمر من هنا.

فاجأه ردها، فقال:

_انشغلت ببعض الأمور، وأنت على البال … أفكر بك، ومشتاق أن أسمع كلامك العذب.

جلسا بقية اليوم يتحدثان في أمور تجد طريقها  لتوها، لا يدريان كيف تأتي، لكنه حديث ممتع لكليهما.

 وهذه المرة نهض صالح وهو على يقين أن الفتاة المسكينة قد وقعت في حبه أكثر مما يتمنى أي رجل. لكنه متزوج ولديه أطفال أيضاً.

كما أنه لن يفكر في الزواج بها .. لا، لن يفكر في ذلك أبداً. غادرها مودعاً، على أمل أن يراها مرة أخرى حين يتيح له وقته.

في الأيام التي تلت، كانت بدور كتلة انتظار حزينة، وعصب استشعار لخطو صالح حين يشرق كالشمس من بين الغيوم التي تتراص على قلبها.

 بدور التي أصبحت كائناً آخر يضحك في الوجوه العابسة، ولا يبالي بنظرات الشفقة أو السخرية … بدور التي أحبت الحياة أخيراً.

ذات مرة أخبرته بتلقائية أخافتها كم تحبه، كم هو مهم في حياتها، وأنها لا شيء دونه. تحبه كيفما كان الأمر، وتعرف أنه بعيد كالشمس، إن اقتربت أكثر احترقت، وإن ابتعدت قتلها الصقيع.

صالح، الذي يتلهى برؤية جمال النساء في القرى التي يمر بها، خانته الشجاعة أن يوجع قلباً طاهراً يحب لأول مرة؛ فهمس حزيناً:

– وأنا أحبك يا بدور. لكني لا أدري ماذا أفعل. أتمنى أن تكوني سعيدة؛ ولكني عاجز أن أجعلك سعيدة. تعرفين أني متزوج. الأمر صعب كثيراً. أنت تفهمين.

همست بدور بصوت ذبيح:

– أفهم، أفهم يا صالح، وأنا لا أطلب منك الكثير؛ فقط قلب محب مخلص.

ليلتها، بكت بدور كثيراً، لا أمل أن تكون مع من تحب. ربما لا يريدها، ربما هو قدرها الذي حكم مسبقاً، ربما وربما… لكنها لا تستطيع أن توقف نبض قلبها إلا بالموت.

كل يوم، وهي ذاهبة للمرعى، كانت تخاف عيون الرقباء كما كانت تخشاها من قبل وهي تحدق في عرجها، تكره أقوال أصحابها.

كانت تخاف كونها مادة لسخريتهم. والآن، تخشى أن يراها أحدهم مع صالح، ستكون أكثر سخرية وعاراً، ستكون (العرجاء السافلة) هذه المرة.

ورغم خوفها من أن يعرف أحد سرها؛ كانت بدور تزداد تعلقاً وشغفاً بصالح، تظل لساعات تحدق في تفاصيل وجهه بشوق، وهو يتحدث عن كل ما يصادفه.

كانت تحفر في خيالها  تلك التفاصيل كوشم نافذ في القلب. استسلمت لعاطفتها بلا قيد أو شرط أو حتى تعقل.

أدرك صالح ذلك الانقياد الساحر منها، ومقاومتها لمخاوف الفضيحة التي ستلحق بها وبأسرتها …. تعرف بدور أنه لن يكون هناك بقاء لها في الحياة؛ فقد فرطت في شرفها وأهدرت شرف عائلتها بنزوة حب تعرف أنها من تتجرع نتائجها وحدها.

 فصالح مجرد رجل لا تعني له الكثير، سيرحل ببساطة، ولن يحاول حتى سؤالها هل ستكون بخير، سيتركها لتساؤلات تنهش راحتها؛ ماذا لو رآها أحد ما مع صالح؟ كيف ستقابل أهلها وقد كللتهم بالعار؟

لقد أصبحت في كل مرة تخشى العودة إلى القرية؛ ربما قد سبقها في الذهاب خبر مشؤوم. الآن يعتصرها الخوف والألم؛ لكنها أحبت صالح. أحبته؛ لأنه الوحيد الذي لم يسخر من عرجها أبداً. كان قلباً حنوناً، وإن تركها تلاقي مصيرها وحيدة.

كانت خطواتها تجرها إلى القرية جراً. حتى عرجها بات أكثر صعوبة وألماً وحرجاً. وعلى مشارف القرية، قابلت الراعية الممشوقة. كأنها كانت تنتظر قدوم بدور. حاولت بدور تحاشي الفتاة؛ إلّا أنها اعترضتها عنوة وهي تقول بصوت عال:

–  هاه يا قدور، لقد أصبح لكل ساقطة في الحي لاقطة. ألم تجدي غير طريق العار والفضائح يا عرجاء؟!

تجمدت بدور. حدث ما يرعبها في كل لحظة. لقد فضحت على الملأ. لعل القرية كلها علمت. ولماذا تعود إلى القرية الآن؟ كي ترى وجوه والديها وإخوتها مشتعلة بعارها؟ أن تقتل على أيديهم فتموت مرتين؟ إنها لا تستطيع أن تنظر في وجوههم أبداً بعد فعلتها.

أفلتت زمام بقرتها “ملك”، فهي ستعرف طريق العودة دونها. لعلها بالفعل، كما تقول أمها، أكثر نفعاً من بدور وتعقلاً. وعادت أدراجها نحو الوادي. ستغرب الشمس قريباً، ستغرب أكثر من شمس هذا اليوم.

اتجهت نحو تلك القمة المنحدرة التي يخافها الرعاة ومواشيهم. ظلت تصعد فترة طويلة. كان ارتفاعاً شاهقاً ومنحدراً مخيفا. تذكر أن بقرة لعائلة في القرية سقطت من هناك، لكن لا أحد كان يجرؤ أن يقترب من أشلاء جثتها التي تقاسمها جن المنحدر.

وقفت بدور في مواجهة الغروب تشاهده لآخر مرة. كان انبعاث دموعها في تدفق غزير يحجب عنها رؤية الجمال لآخر مرةٍ . اختلط  شفق الغروب بابتسامة صالح الحنون وهو

 يهمس في أذنها: “أحبك، أحبك، لا تخذليني”. ورمت بدور بنفسها من ذلك المنحدر الشاهق.

الآن فقط لن تخذله، ولن يخذلها عرجها مرة أخرى.

 قاصة وكاتبة يمنية | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …