آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » قدمي اليسرى

قدمي اليسرى

بشرى البشوات  | 

صوت طرقات عصاه على الأرض ذات اليمين، وذات الشمال، بالكاد ينقر الإسفلت نقراً خفيفاً، يمسّه مساً رقيقاً، نزل العتبة مبتدئاً برجله اليسرى، صار إلى يسار بابي، لمّا ألقى تحية المساء، أدرت مفتاح آلة التسجيل إلى اليسار أيضاً لأتمكن من سماعه، حين جاءه صوتي الأنثويّ راداً تحيته، أدرك أنه وقع في خطأ حدسي، وأن ثمة امرأة تستوطن المكان.

سألني سؤالاً واحداً: نقدته الإجابة باقتضاب شديد.

ترك شكره يجر ذيلاً خلف ظهره الذي أداره لي ومشى، من درفة بابي اليسار إلى العتبة، قطع أربع خطوات ليصير هناك.

وصل، رفع عصاه، جسّ نبض الرصيف، ما من أحد على قيد الحياة حيث دبت عصاه البيضاء الطويلة، على الجانبين شجرتان زرعهما عمال البلدية، صار وعصاه في الوسط ما يميّز إحداهما عن الأخرى تلك الخضرة التي رشقت شجرة اليمين، بالرغم من أن الوقت هو نهاية آب  وبداية أيلول، لا أدري أي نوع من الأشجار هذا الذي يوّرق في هذا الوقت من السنة، شجرة اليسار  جرداء، يابسة محاطة بشبك معدني مثمّن ، وصاحبة اليمين كانت كذلك.

إيقاع الشارع العام بدا طبيعياً،أبواق وأضواء السيارات، قليل من عابري الصدفة، وهذا الذي يرتدي ليليّن أثنين، يمشي برفقتهما، تأبط جانب الرصيف الأيسر وشقّ دربه..

تك،  تك، تك

كثيرة هذه الـ  تك  تك، لكنها ليست كثيرة عليه.

الإحساس المشبع بالكثرة شيء يعنيني، لأني حشرت جسدي الصغير في مطرح ضيق بالكاد يتسع له ولعصاه..

بالمناسبة هذا الرجل طويل القامة، وعادة تهتم النساء بمثل هؤلاء، يلبس قميصا مقلّما، خطوط مستقيمة بيضاء  زرقاء، بنصف كم يفرق شعره الأسود إلى اليسار أيضاً، مشى بعكس اتجاه السير هو يغرّب والسيارات تشرّق.

أمتار قليلة تفصلني عنه، صار في مرماي..

أنا خلفه فوق العتبة، ودكاكين الجيران لا تزال تعلّق قناديلها، تشرّع أبوابها، يتصيّد كل واحد منهم  نسمة باردة، فرّت من قبضة النهار الملتهب، نظري لا يزال يتابع ذلك اليساري.

حفّ ذراعه ببقايا جدار مهدم، وددت أن أصرخ فيه: انتبه، خطوتين فضربت عصاه لوحة إعلانية..

حقيقة رغبت أن أكلمه، أناديه تعال: نتحدث قليلاً، لكنني جبنت.

 كيف أدعو رجلاً غريباً ليقاسمني الكلام، كلام وفير لدي أدخره من ليالي الصمت اليابسة، وهذه ليلة من الليالي، تمنيت أن أقول له:

عُد  اقترب أكثر، أنت وحدك تختلي بالصباح  تمنعه  أن يمرّ بي، هل لك أن  ترمي وجعك، طوح به عالياً أمتلك من الخفة والرشاقة ما يمكنني من التقاطه والذهاب به بعيداً..

لماذا افترضت أنه موجوع !؟

ممكن لأنني كنت كذلك في تلك اللحظة تحديداً، أردت من خلاله أن  أسترد بعض العافية التي ضاعت مني مؤخراً، لدي شعور مثخن بالحزن.

صار بعيداً  رأيته يهبط الرصيف، ثم يرتقي مرة ثانية بذات الطريقة، ترتفع ساقه لتسقط على الجهة الثانية ، كاد يتعثر حين هُرع شاب ، ساعده ، ارتطم بأكياس الجبس التي تسدّ الطريق، عبرَ من أمام تلك المحال، وأنا أترصده..

أفكاري لا تشبه أفكاره، ثم إنه لا يراني، ولا يدري بأني أتعقبه، وصل الآن محلاً  يصقل  ألواح البللور والمرايا، صاحب المحل علق مجموعة من المرايا  بمقاسات  مختلفة، ولأنه لا يزال يمتطي ظهر الرصيف اليساري، ظهرت صورته على المرايا من جهة واحدة حيث ينبض قلبه، صورة لجذعه النحيل وساعده من الكوع حتى أصابعه التي تقبض على رأس عصاه، إبهامه وسبابته والوسطى، وتنكسر عصاه على مرآة أخرى.

تابع سيره ومن بين عمودي كهرباء، مرّ بسهولة، استوقف أحدهم سأله ذات السؤال الذي سألني؟

  مشى بضع خطوات  ثم انحرف أكثر إلى اليسار ودخل  باباً مفتوحاً.

ياه …ارتحت  وتنفست الصعداء إنزاح عبء مراقبته عن صدري، استدرت وصلت عتبتي لأنزل جهة مكاني ونظرة أخيرة إلى يميني، رأيته خرج ومعه رفيق تأبط أحدهما ذراع الآخر، قطعا الشارع، صارا إلى يمين الرصيف.

وتك، تك 

صوت طرقات عصاتان

استدرت  كانت قدمي اليسرى تسبق شقيقتها  اليمنى.

كاتبة سورية  | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

في حضرة الغياب

وحدهم أولئك الذين يتقنون فن الغياب قد فهموا لعبة الحياة، فلا تنفك هي تبحث عنهم …